وجه لي زرياب دعوة كريمة لتقديم فقرة في التياترو الأسبوع ده وأنا اتبسطت أوي إن فرصتي لاقتحام عالم الفن جت أخيراً :)
Wednesday, December 28, 2005
حدوتة في التياترو
Thursday, December 08, 2005
أسباب بسيطة
"إنت ليه مش بتمسك إيدي وإحنا ماشيين في الشارع؟"
"لأ بلاش...افرضي حد من قرايبك شافنا؟ والا حد من أصحاب أخوكي في الكلية؟ إن شاء الله يا حبيبتي بكره نتخطب وامسك إيديكي ادام الدنيا كلها".
.................................
"إنت ليه مش بتمسك إيدي وإحنا ماشيين في الشارع؟"
"علشان مش عاوز حد يفتكر إننا علشان اتخطبنا هنصيع بقى ونعيش حياتنا...وبعدين بصراحة كده أنا مستحرم...إن شاء الله بكره نتجوز وامسك إيدك وإنتي مراتي حبيبتي في الحلال".
.................................
"إنت ليه مش بتمسك إيدي وإحنا ماشيين في الشارع؟"
"يا حبيبتي إحنا مش مراهقين بقى هنمسك إيد بعض في الشارع وكده...إحنا اتنين متجوزين ومحترمين وعندنا بيت نعمل فيه اللي عاوزين نعمله".
.................................
"إنت ليه مش بتمسك إيدي وإحنا ماشيين في الشارع؟"
"يعني امسك إيدك والا امسك إيد البنت والا اشيل الأكياس دي كلها؟!"
.................................
"إنت ليه مش بتمسك إيدي وإحنا ماشيين في الشارع؟"
"إيدك إيه بس اللي هامسكها دلوقتي! إنتي عاوزه جوز بنتك يقول علينا كبرنا وخرفنا؟!"
.................................
"أنا بس كان نفسي تمسك إيدي وإحنا ماشيين في الشارع...عادي يعني...من غير مناسبة أو هدف محدد...بس تمسك إيدي...ماكنتش عاوزاك تمسكها علشان تسندني أو علشان أنا مش قادرة أمشي لوحدي مثلاً...أو علشان ده الصح اللي مفروض تعمله مع مراتك وهي عيانة...ولا علشان...زي دلوقتي...أنت خايف لو سبتها وقمت هاموت...لأ...تمسك إيدي علشان أنت عاوزها تفضل في إيدك...بس".
Monday, December 05, 2005
حاجات ومحتاجات
معلش يا غادة...أنا مش هاقدر اكتب عن سبع حاجات بظبط. أنا دماغي سايحة على بعض الأيام دي...ده غير إني أصلاً مش بحب رقم سبعة.
حاجات نفسي أعملها:
- اكتب كتاب يكسر الدنيا (زي نايتي بظبط) ويبيع كتير ويبقى عندي فلوس تكفي اشتري كوخ على البحر في حتة مهجورة بس البحر بتاعها يكون حلو واعيش هناك اكتب واقرا واترجم واسمع مزيكا وارقص وبس.
- ابقى أحسن واحدة تعمل ورق عنب في العالم
- اتعلم ارقص سالسا وميرينجي وباتشاتا كويس جداً
- اخلص كل الكتب اللي عاوزة اقراها
- اخلص الماجيستير...أو بالأصح ابدأ فيه
- ما اتكسفش اتكلم فرنساوي ادام الناس...واتعلم أسباني بجد مش بالفهلوة
- اقضي شهر بألف أوروبا
حاجات باعرف اعملها/بحب اعملها:
- الكيك بأنواع مختلفة
- لما باطبخ...باطبخ حلو
- أقول نكت
- ارقص بلدي
- اعمل من الفسيخ شربات واحل مشاكل ناس تانية بمنتهى السهولة (ويجيلي شلل عقلي عند أبسط مشاكلي)
- احكي حكايات...ولو الناس سابتني ممكن اقعد اتكلم بدون توقف لساعات
- اعمل مؤثرات صوتية وأنا باحكي الحكايات (طاخ...تش...تك تك تك...تي تي تي...عاااااا...تيكيلم تيكيلم)
- اتفرج على أفلام مختلفة ورا بعض في السينما من أول اليوم لآخره
حاجات مش باعرف أعملها:
- اتحكم في تعبيرات وشي
- ورق العنب
- أنام 4 ساعات متواصلة...أنا باقلق من النوم بمعدل مرة كل ساعتين
- اعزف بيانو بالنوتة الموسيقية...باعزفه سماعي بس...بعد سنين وسنين من التدريب!
حاجات بتقلقني:
- قياس محيط الوسط بتاعي
- ألاقي ماما صاحية لما ابقى مروحة متأخرة
- ما الحقش اعمل كل الحاجات اللي عاوزه اعملها
- يطلع في رادار وأنا سايقة بسرعة ويسحبوا مني الرخص
حاجات بأقولها دايماً:
- يا مصيبتي (تُنطق "يا مسيبتي")
- أموت أنا! (تصاحبها غمزة أو تلعيب حواجب)
- ياااا حالوللي!
- يا حياتي (أيوه يا حياتي...نعم يا حياتي...لأ يا حياتي)
- إشمعنى؟
حاجات مش عارفه الناس إزاي بتقدر تعملها:
- تنام من غير ما تغسل رجليها وسنانها وتلبس هدوم نضيفة
- تنام 8 أو 9 أو 12 ساعة متواصلة
حاجات ما أظنش إنها هتتغير فيا أبداً:
- العند...العند...العند (صوت راس بتخبط في الحيط)
- افتكر حوارات بالكامل وافتكر كمان الناس كانت لابسة إيه لما قالتها
- الهرتلة...تخيلوني كده...تيتة رحاب المهرتلة :)
- إني ابقى حساسة أوي...حاجات صغيرة جداً تخليني تعيسة وحاجات صغيرة جداً تخليني أسعد واحدة في الدنيا
أغنية لازقة في دماغي اليومين دول:
أولاً هي بترقّص أوي...ده غير إنها جامدة:
"جرب من اللي أنا دقته معاك
بكره هتمشي تبص وراك
وهتتعذب...اتقل اتقل...إوعى تفكر إني ملاك
لا يا حبيبي أنا هاقسى عليك
بكره تشوف الويل بعينيك
مش هاتعاتب ولا هاتكلم...وقت عتابك عدى عليك
طيب طيب صبرك حبة...ما عرفت خلاص إيه فيها
أستاذ في القسوة لكن على مين...ده أنا يا ابني معلم فيها"
(طيب طيب – محمد فؤاد)
ده غير إني من ساعة ما شفت فيلم "Underground" من 3 أسابيع وأنا باسمع الموسيقى بتاعته بدون توقف. وحطيت أغنية منهم رنة للتليفون. حد ينقذني من نفسي!
صورة مش قادرة أشيلها من مخي اليومين دول:
أنا...في العربية لوحدي والدنيا بليل وبرد...ماسكة الموبايل في إيدي ومتضايقة أوي وباعيط...وعماله أفكر أكلمه وإلا لأ...وفجأة الموبايل يرن وألاقيه هو...وأول ما يسمع صوتي ويعرف أنا فين يقول لي: خليكي عندك أنا جايلك...ويرجع من على طريق مصر اسكندرية الصحراوي علشان يقعد معايا خمس دقايق ويقول لي: ما تزعليش..كله هيبقى كويس.
فكرة مسيطرة عليا اليومين دول:
إني لو قعدت أعيط لمدة ساعتين يوم واحد بس في الأسبوع (نقول يوم الأحد لإنه عادةً بيبقى يوم خنيق...بلاش في وسط الأسبوع وبلاش في الاجازة) هابقى كويسة أوي لباقي الأسبوع وأعصابي مستريحة، بدل ما اقعد اكتم في نفسي وانفجر لسبب تافه.
حاجة ندمانة عليها (مش أوي يعني):
في وقت ما كان يستحسن إني ألجأ لطبيب نفسي لكني فضلت أعالج نفسي بنفسي. ساعات باحس إني نجحت في علاجي...عملت شغل مش بطال والله...وساعات تانية باحس إن كام حباية مضاد للاكتئاب على كام مهدئ على كام جلسة عياط عند الدكتور النفساوي كانوا برضه هينفعوا.
ناس يا ريت يكتبوا حاجاتهم و محتاجاتهم:
سامية، مها، ديدو، إيف، ابن بطوطة، يسرا، واحدة مصرية
Saturday, November 26, 2005
لما الشتا يدق الببان
تحكي لي أمي أن خالتي آمال كانت تصطحب خياطتها اليونانية معها إلى السينما لترى بنفسها موديلات فساتين شادية وفاتن حمامة، لتصنع نسخ مطابقة منها لخالتي. تتنهد أمي وهي تضيف: "طول عمرها عايقة".
توفيت خالتي آمال أول أمس. اتصلت بي أمي في العمل وقالت: "عندي خبر مش كويس عن طنط آمال". لو كانت أمي قد قالت: "عندي خبر مش كويس" وصمتت لأُغشى علىّ في الحال، فأنا منذ بضعة أسابيع أحس أن هناك شخص قريب سيتوفى، ولكنها عندما قالت الجملة كلها في نَفس واحد فوجئت واسترحت في نفس الوقت. حبست أنفاسي وحاولت بسرعة أن أسترجع نبرة صوت أمي من أول المكالمة، لأحاول أن أحدد مدى تأثرها. أغمغم بكلام غير مفهوم محاولة تعزيتها (تعودت مني أمي على هذا، وأصبحت تفهم من غمغمتي ما تريد أن تفهم). اختنق صوتها وهي تقول: "ارتاحت" فتركت العمل في نصف النهار وهرعت إلى المنزل حتى لا تبكي وحدها. وجدت نفسي طوال الطريق أبكي بصوت عالٍ واندهشت لحزني هذا. طنط آمال هي واحدة من ثلاث أخوات غير شقيقات لأمي، ولكن لأنها أصغر تلك الأخوات فهي أقربهن لأمي ولخالتي الصغرى ولنا. هي شخصية مرحة "حبوبة"، تحب الحياة للغاية ولديها طاقة مُعدية تنتقل لك ببساطة وأنت معها.
رغم حبي للشتاء إلا إنني أخاف منه. نجحت أمي في ترسيب لدى فكرة أن الشتاء دائماً ما يحصد العجائز: "ما بيستحملوش البرد". أغلب موتانا رحلوا في الشتاء فعلاً.
أعود للمنزل فأجد حذاء أمي بجوار الباب خارج الشقة. أفهم أنها لم ترد أن تدخل الشقة وبقايا تراب المقابر عالقة بحذائها. أتذكر مقولة جدتي لأمي التي كانت أمي دائماً ترددها: "نفسي أموت وتراب الشارع على رجلي"، وكانت تتمنى ألا ترقد مريضة في السرير. توفيت جدتي وهي تسقي نباتاتها الصغيرة في منزلها.
أجد أمي في السرير. أحتضنها وأحاول أن أدقق في تفاصيل عينها لأتلمس حزنها وأعرف كيف أتصرف. نتكلم قليلاً وأتركها لتنام. شهاب سعيد بعودتي المبكرة ويحتضنني بمرح. يجدني متخشبة فيتساءل عما بي. "يا ابني مش طنط آمال اتوفت؟!" فيجيب ببساطة: "أيوه بس هي كانت عيانة" فأجد رده مستفزاً للغاية. أفتح الثلاجة لأجد مشتروات غريبة كما توقعت، فأعرف أن أمي مرت على البقال لتشتري أي شيء و"تغيّر العتبة". تؤمن عائلتي (وأظن أنه اعتقاد سائد) أنه لا يجب أن يعود المرء من المقابر مباشرة إلى منزله أو أي منزل آخر حتى لا يتسبب في إحضار الموت لأهل المنزل. في أحد الأعياد ذهبت أمي وأخي وابن خالتي لزيارة قبر جدتي، ومروا في طريق عودتهم على بقالة ما لشراء أي شيء و"تنفيض" أحذيتهم مما قد يكون علق بها من تراب، وعندما عادوا لمنزل خالتي وجدوا أن جارهم قد توفى، فنظر ابن خالتي لأمي بوجه ممتقع وقال: "يمكن يا طنط إحنا ما نفضناش جزمنا كويس؟"
في المساء نذهب لقاعة المناسبات للعزاء. أتعلم من أخطائي السابقة فألبس تحت ملابسي السوداء شيء أحمر يبقيني دافئة دون أن يظهر للعيان، وألف حول عنقي كوفية بيضاء. تذكرنني خالاتي وبنات خالاتي في ملابسهن السوداء وأغطية شعرهن البيضاء بعائلة الملك حسين عندما توفى. لا أعرف لماذا تذكرت هذا المشهد وقتها، ربما لشعورهن الشقراء وأعينهن الملونة. بين عائلة أمي أنا من القلائل اللاتي يتمتعن بشعر غامق وبشرة قمحية. عِرق من طنطا وآخر من المنصورة هو السبب في ألوانهن. أقول دائماً أن السبب في لون شعري وبشرتي هو بواقي عِرق مغربي، استناداً على أسطورة عائلية مفادها أن جد جد جدي لأمي نزح من المغرب لمصر، ولكن في أعماق أعماقي أنا مؤمنة تماماً أني أميل للجانب الصعيدي في عائلة أبي.
أجلس في القاعة أغالب البكاء وتجلس أمامي خالتي الكبيرة. يخطر لي أنها إذا كانت هي المتوفية لما حزنت كل هذا الحزن. أرفع عيني وأحاول أن أثبت ملامحها في ذهني وأن استرجع صوتها. أبدأ في البكاء. طنط آمال هي أول أخت لهم تتوفى. منذ عشر سنوات ونحن نتوقع وفاة خالتي الكبيرة، ولم نتخيل أبداً أن نجلس معها في عزاء أختها الصغيرة. أخرج من القاعة لأتنفس على راحتي. أجد إحدى بنات خالاتي من الطرف البعيد من العائلة تقف خارج القاعة. لم أرها منذ سنوات: إزيك...إزيك إنتي..أخبارك...أخبارك إنتي، ثم تعطيني الجملة التي كنت أنتظرها: "معقولة يا رحاب ما نشوفكيش غير في المناسبات دي؟" شعرت برغبة عارمة في أن أصرخ فيها: "وهو إنتي بروح أمك كنتي عزمتيني على فرحك وإلا سبوع ابنك وما جيتش؟!" لكن أتمالك نفسي وأقول: "معلهش"، وينقذني وصول خالتي الصغيرة وابنتها. أركض لحضن خالتي وأسألها لماذا تأخرت، فتقول إنها كانت مازالت تحت تأثير المهدئ، فتروعني الخطوط الرفيعة الكثيرة حول عينيها التي ألحظها لأول مرة. تدخل خالتي القاعة وأظل مع دينا ابنتها في الخارج. تسألني دينا: "مالك؟ وشك سخن وأحمر كده ليه؟" فأحاول أن أشرح: "الهوا...جوه...جوه كتمة أوي...أنا ماكنتش عارفه إنها عيانة كده...أنا مخضوضة..." ولا أقول لها أنني أخاف على باقي أقاربي لأننا في الشتاء.
تأتي عمتي الكبيرة وابنتها لتقديم واجب العزاء. أرتاح كثيراً لترابط عائلة أمي وأبي، خاصة عمتي الكبيرة وخالتي الصغيرة. عندما كنت في الحادية عشرة من عمري فقدت عمتي زوجها وانفصلت خالتي عن زوجها، وعشنا نحن الأطفال أحلى إجازة صيف، حيث كان كل هم الكبار أن نكون بعيداً عنهم وعن البيوت المنكوبة بأي طريقة ممكنة، فقضينا جل وقتنا ما بين النادي والشارع.
أنا أذكر عن الراحلين الكثير، أو القليل، ولكن في كل الأحوال لا أنسى أصواتهم أبداً. طنط آمال كانت تنطق اسمي بالطريقة التي أحبها، لا تنطقه "ريحاب" بسخافة بل "رحاب" بحروف واضحة. كانت في كل مرة تعود فيها من إيطاليا تأتي لنا بشيء جميل صغير. آخر هداياها كان دبوس فضي للمعطف صغير وملون، أعطته لي في كيس بنفسجي رقيق.
أفكر كثيراً في تقدمي في السن. كتبت عن ذلك مرة. أردت دائماً أن أبدو مثل خالتي آمال إذا ما بلغت الستين: قصة شعر أنيقة، ملابس بألوان سعيدة، بعض الفرنسية وبعض الإيطالية، ضحكة تلقائية مجلجلة، لمعة في العيون، وشقاوة و"دلع" لا يطفئهما الشعر الرمادي ولا "كراميش" الوجه والرقبة.
في رمضان الماضي كنت أحضر حفل لفرقة "وسط البلد" بالتاون هاوس. في منتصف الحفل لاحظت أن هناك سيدة في أواخر الأربعينات تقف بجوارنا وتهز رأسها بهدوء مع الموسيقى، وعلى شفتيها ابتسامة صغيرة وبعينها استمتاع يلمع. كانت تحمل حقيبة سوداء كبيرة وترتدي حذاء مريح بكعب منخفض وملابس عملية وبسيطة. أول ما خطر على بالي وقتها أنني غالباً سأبدو كذلك في أواخر الأربعينات. انتبهت أن خالد يشير لي من آخر الصف محاولاً لفت انتباهي، أنظر له مستفهمة فيشير إلى تلك السيدة وبابتسامة عريضة يقول: "إنتي هتبقي شبهها كده لما تكبري!" أضحك جداً وبسعادة بالغة أقول: "أيوه أيوه! كنت لسه بأفكر في كده حالاً!"
أجد نفسي أفكر كثيراً أيضاً في موتي، حتى وأنا في مزاج رائق. أفكر في الفضة التي أمتلكها ولمن ستذهب. قررت أكثر من مرة أن أكتب وصيتي حتى اطمئن على سير أحوالي بعد موتي. الفضة تقتسمها البنات: تختار أمي أولاً، ثم يختار أخي قطعتين (واحدة لزوجته إذا تزوج، وأخرى لابنته إذا انجب بنتاً)، ثم خالتي وبناتها، ثم عمتي وبناتها، ثم ابنة خالي في فيينا وابنة خالي الأخرى وزوجة ابن خالي في كندا، ثم صديقاتي تبعاً لأقدميتهن ودورهن في حياتي: ريهام وكارولين وأمنية، ثم هلا ورهام وسامية ومها ومروة. ملابسي الشتوية تذهب كلها للفقراء والمحتاجين. ليس لأحد من أقاربي أو أصدقائي أن يحتفظ بأي معطف أو كنزة. يمكنهن أن يقتسمن الكوفيات، ولكن الملابس الثقيلة—حتى الغالية منها، وخصوصاً الغالية منها—تذهب للذين يحتاجونها. لا أبالي بمن سيرتدي معطفي الثمين، طالما وهب الدفء لمن يحتاجه فعلاً. أحذيتي أيضاً تذهب للفقراء. أما كتبي فتوزع على الجميع، بنات وأولاد، كبار وصغار، أقارب وأصدقاء ومعارف. أريدهم أن يحضروا إلى منزلي مرة كل أسبوع أو حتى كل شهر، يفتحون خزانتي وأدراجي ونوافذي، يستضيفون الشمس والهواء في غرفتي، يجربون كل ملابسي وحقائبي وعطوري ومستحضرات تجميلي ويأخذون ما يريدون؛ يجعلونني أتنفس ولا يتركونني أموت.
أُدفن في عجيبة على شاطئ الأُبيض بمرسى مطروح—إشمعنى يعني جدي اتدفن في أبو قير على البحر؟—ولا يأتي أحد لزيارتي بدون ورد بلدي وردي اللون. يُزرع حول قبري الريحان والخزامي والفُل والياسمين وشجرة توت صغيرة. لا أُريد مأتماً لثلاث أيام ولا أُريد ذكرى الأربعين أو إحياء الذكرى السنوية. رغم كل شيء عشت حياتي بابتسامة وأغنية، فليست بي حاجة للحزن بعد غيابي. في ذكرى الأربعين يمكن لعائلتي وأصدقائي السفر للإسكندرية وقضاء يوم هناك. أوصيكم بسلطة "التراما" من النادي اليوناني، ثم آيس كريم الحليب من "جيلاتي عزة". الإفطار عند محمد أحمد، والحلو من عند ألبان السقعان (خصوصاً الكريم كراميل)، والشوكولاتة الباردة من البن البرازيلي، والكابتشينو من التريانون. الغروب عند قايتباي، والزلابية من شارع النبي دانيال، والسهرة على الكورنيش أو على سطح منزلنا بالأزاريطة. تُرى هل سيتذكر أولاد خالتي عندها كيف جعلتهم يسيرون من ميامي حتى الأنفوشي مقنعة إياهم أننا في طريقنا إلى سموحة؟ هل سيتذكرون جمعي لتذاكر الترام وكتابتي على ظهر كل منها التاريخ والمكان الذي ركبنا منه والمكان الذي نزلنا فيه؟ هل سيتذكرون اليوم الذي صحت فيه: "السما مليانه نجوم الليلة دي، يا سلام لو النور يقطع!" فتنقطع الكهرباء في لحظتها عن كورنيش الإسكندرية بأكمله؟ ماذا سيتذكرون عني؟
في طريق العودة تحكي لي أمي أنها كانت تنتظر خروج باقي إخوتها من المقبرة، حيث أنها لم تقو على الدخول معهم، ولكنهم فوجئوا أن قريب آخر لهم قد توفى واتصلوا بالناس الموجودين بالمقبرة حتى ينتطروهم ليحضروا الفقيد الثاني. وهي منتظرة ومستغرقة في حزنها فوجئت أمي بالحانوتي يُشهد حارس المقابر على مساعده: "أنا قلت له خليك هنا ما تقعدش تتنطط بين التُرب، وآدي رزق تاني جالنا آهوه! أنا مستعد اديك 300 جنيه على اليوم كله". تستطرد أمي بدهشة وهي تضحك: "وأنا قاعدة حزينة وصعبان عليا آمال لقيت الناس دول بيسترزقوا...يعني ناس بيزنس خالص...طلعوني من الموود تماماً!"
عنوان التدوينة مأخوذ من أغنية لعلي الحجار.
Wednesday, November 09, 2005
Tuesday, October 18, 2005
أرز باللبن لشخصين
لعمل طبق من الأرز باللبن لشخصين ستحتاجين إلى ربع كوب من الأرز. أولاً، اخرجي اللبن من الثلاجة. ثم في طبق أبيض واسع ضعي الأرز ونقيه من أي شوائب. ضعي كل شيء جانباً: مراراتك، حزنك، غضبك، إحباطك، وأي فكرة سيئة. تتطلب هذه الوصفة بالاً طويلاً والكثير من الابتسامات المفاجئة. قومي بكل الخطوات بتروٍ. ليست هناك طريقة سريعة لصنع الأرز باللبن، ولا تصدقي أي وصفة تحاول أن تجعلك تهرولي في صنعه. من الأفضل أن تكوني وحدك في المطبخ...بل في المنزل كله، وأن تغلقي جميع الهواتف وترتدي شيئاً مريحاً. اغسلي الأرز أكثر من مرة حتى يصبح ماؤه نقياً. انقعيه في كوبين من الماء الدافئ (وليس المغلي) لثلاثين دقيقة.
في هذه الأثناء صبي مقدار خمسة أكواب من اللبن في إبريق زجاجي شفاف. اجلسي باسترخاء محتضنة الإبريق بين كفيك. سيعمل هذا الحضن اليدوي على تدفئة اللبن. بحنان بالغ ربتي على الإبريق. فكري أفكار سعيدة. دندني بأغنية حالمة...
أنا لحبيبي وحبيبي إلي...يا عصفورة بيضا لا بقى تزعلي...لا يعتب حدا...ولا يزعل حدا...أنا لحبيبي وحبيبي إلي...
تذكري إن كل ما ستقومين به سيصبح جزء من الأرز باللبن يشعر به كل من سيأكله، حتى الأغنية...خصوصاً الأغنية.
في إناء طهي متوسط العمق اسكبي اللبن، وبعد تصفية الأرز من الماء اضيفيه على اللبن الدافئ. قلبي ببطء في اتجاه واحد لمدة ربع ساعة.
حبيبي نده لي...قال لي الشتي راح...رجعت اليمامة وزَهّر التفاح...
في هذه اللحظة تذكري كلمة جميلة، قبلة طويلة، ابتسامة دافئة عبر غرفة مزدحمة، أو حضن مُشبِع. دندني...نعم...ابتسمي أيضاً...نعم نعم...هذه هي لمعة العيون التي تلائم الأرز باللبن.
وأنا على بابي الندي والصباح...وبعيونك ربيعي نور وحِلي...
باحساس مرهف اضيفي رشة من القرفة وأخرى من الفانيليا، كل رشة بيد. افركي يديك سوياً ومرريهما باستغراق على رقبتك. الرقبة مكان مهم للحصول على أرز باللبن ناجح. استمري في التقليب لمدة ربع ساعة على نار هادئة جداً حتى يطرى الأرز. اقتربي من الإناء واهمسي بسرٍ ما. اختاري السر جيداً. اضيفي كوب من السكر واستمري في التقليب ليذوب تماماً...تماماً...دائماً يأتي السكر في النهاية وبعد طول انتظار، وكلما هدأت النار من تحته كلما ازدادت حلاوته.
وندهني حبيبي جيت بلا سؤال...من نومي سرقني...من راحة البال...
يقدم دافئاً في طبق زجاجي وردي اللون. للتزيين رشي قليلاً من القرفة عليه، وبشفاه شبه منفرجة اطبعي بصمتك الخاصة على وجهه. يُلتهم بالأصابع ببطء مع شخص تحبينه.
وأنا على دربه ودربه عالجمال...يا شمس المحبة حكايتنا أغزلي.
الأغنية المصاحبة: "أنا لحبيبي" لفيروز
Thursday, October 13, 2005
حلويات رمضان
أجلس لتناول الإفطار مع مجموعة من السيدات من سوريا واليمن والبحرين وعمان والأردن وفلسطين. يأتي ذكر الحلويات فتقول السورية إن "صوابع زينب" لها حكاية فترتفع قرون استشعار الحواديت لدي. تقول إن زينب هذه هي ابنة الحسين بن علي، وأنها كانت ذات أربع سنوات عندما استشهد الحسين في كربلاء. عادوا لها بجثته فما كان منها إلا أن ركضت عليه لتحتضنه، فحاول أعوان معاوية إبعادها عن جثة أبيها وعندما فشلوا ضربوا أصابعها بالسيف فقطعوها لينتهي آخر حضن بينهما.
تقول السورية إن "أصابع زينب" صارت مثلاً، فعندما يريد أحد أن يجد ذريعة لخلاف ما (غالباً سياسي أو مذهبي) يتحدث عن قسوة ما حدث لزينب و"مو فاكرين شو اللي حصل لأصابع زينب وكيف قطعوا أصابع هاك البنت الزغيره؟" ثم تطور المثل فصارت تُذكر أصابع زينب عند الإشارة إلى أي قوى خفية تتلاعب في موضوع ما: "هايدي أصابع زينب اللي عم تخربص في الموضوع".
الحلقة مفقودة عند السورية بين حادثة الأصابع المؤسفة وبين حلوى "صوابع زينب"، ولكن ذكرت لنا الأردنية أن "أم علي" ما هي إلا زوجة أيبك التي قتلت شجرة الدر بالقباقيب (أنا بحب الفيلم ده أوي! "أبويا..أبويا..أكل الحصان يابويا") وقطعتها قطعٍ صغيرة وأضافت إليها كميات من السكر والخبز واللبن وطهتها طويلاً وقدمتها لزوجها.
نتكلم قليلاً عن الشيعة والسنة، ثم عن التمييز ضد النساء، ثم عن قوتهن بل وقسوتهن وإصرارهن على الزج بأمور الطهي في كل شيء حتى المآسي والمكائد السياسية، وعندما سألوني عن الحلو فضلت أن اشرب شاي بنعناع مع كثير من السكر.
قَـفـلة كتابية
كلما أخذت في كتابة شيء هذه الأيام ابدأ بجملة رائعة ثم أجد نفسي اكتب: "درجن درجن درجن...هِـر هِـر هِـر".
Tuesday, October 11, 2005
كبسة
اتصل بمكتبة مدبولي ثاني أيام رمضان: "لو سمحت...عندك كتاب ناجي نجيب رحلة إلى الشرق رحلة إلى الغرب؟"
"ناجي إيه؟ ناجي نجيب؟ لأ مش موجود".
"طب في كتاب علم الدين لعلي مبارك؟"
"علي مبارك؟ لأ ما عنديش حاجة لعلي مبارك".
"طب ولو أنا عاوزه حاجه من الهيئة...ينفع تطلبوها لي؟"
"لأ حضرتك لو عاوزه حاجه من الهيئة تروحي تجيبيها بنفسك".
مش عارفه ليه الجملة دي بقالها تلات أيام غيظاني!
Monday, September 19, 2005
يوم رياضي
كان اليوم "يوم رياضي": كان علينا حضور حلقة نقاشية حول منتج ما في شركة لبحوث التسويق. أجلس مع مديري المباشر وزميلتي المسؤولة عن هذا المنتج في غرفة العملاء مع اثنين من العملاء، شاب وشابة، يدخنان بشراهة. الشابة تبدو لي على شفا انهيار عصبي، والشاب بطيء جداً في ردود فعله ويسمع الكلام ثم يردده كأنه هو الذي فكر فيه لتوه. المكان المثالي لمثل هذه المناقشات يتكون من غرفتين متلاصقتين: إحداهما للعملاء والأخرى للمجيبين، والحائط الذي يفصل بين الغرفتين زجاج من ناحيتنا ومرآة من ناحيتهم، بحيث نستطيع نحن أن نرى المجيبين ويظلون هم طوال المناقشة يعدلون ملابسهم ويتفقدون تسريحة شعرهم أمام ما يظنونه مرآة كبيرة. نحن هنا اليوم لنرى كيف يفكر المستهلك البريء الذي سنهاجمه بعد ذلك بوابل من الإعلانات تجبره على شراء منتج العميل نقول فيها إن هذا المنتج بالتأكيد هو الأفضل والأرقى والأسرع والذي سيحل كل مشاكلكم، حتى المشاكل التي لم تكونوا على دراية بوجودها من الأساس. وسيجعل هذا المنتج كل السيدات جميلات وكل الرجال جذابون. كم أكره عملي أحياناً!
ولكن لأكون صادقة أنا غالباً ما استمتع بهذه المناقشات. أولاً، أن أكون غير مرئية هو شيء أتمناه في كثير من الأوقات. عندما كنت صغيرة (وحتى وقت قريب) كنت أفكر ملياً فيما سأفعل إذا كانت لدى "طاقية الإخفا"، وأفكر في سيناريوهات أعرف فيها ماذا يقول الناس في غيابي وأين يخبئ أخي الشوكولاتة، بل وأفكر في أخلاقيات استعمال "طاقية الإخفا". ثانياً، الموضوع برمته كوميدي جداً ومفيد للغاية، وتعليقات المجيبين تذهلني كل مرة بذكائها الحاد أو غبائها المطلق ولكنها في كل الأحوال تضيف عمق لرؤيتي للعديد من الأمور. اليوم مثلاً اكتشفت أنه ربما كان أحد أسباب السحابة السوداء التي نعاني منها في الخريف في القاهرة هو إشعال الفلاحين للأقراص الطاردة للناموس مباشرة بدلاً من وضعها في الجهاز الكهربائي المخصص الأقراص! فعلاً...اللي يعيش ياما يشوف، واللي يحضر "جروبس" (groups) يشوف أكتر!
من الأسئلة التقليدية التي توجه لي: "إنتي بتشتغلي إيه بظبط؟!" للأسف أنا لا أعمل مذيعة كما كنت أتمنى طول حياتي، ولا أعمل بالكتابة بعد؛ أنا أعمل "كوبي رايتر" في شركة دعاية وإعلان. عندما سألتني صديقتي العام الماضي: "تحبي تشتغلي معانا كوبي رايتر؟" كان أول ما جال بخاطري: " يعني إيه كوبي رايتر؟ هاصور ورق يعني وإلا إيه؟!"
يتكون أي إعلان عادةً من صورة (visual) وكلام (copy)، وبالتالي فالكوبي رايتر (copywriter) هو الشخص المسئول عن تأليف كلام الإعلانات. أجد الكلمة بالفرنسية أوضح (rédactrice publicitaire) أو محرر إعلاني/محرر إعلانات. حاول أحد أصدقائي المترجمين مساعدتي في إيجاد ترجمة صحيحة للكلمة الإنجليزية فاقترح "محررة فنية" ولكني اعترضت بشدة. أنا مش شغالة في مجلة الموعد!
يتطلب عملي ترجمة المطبوعات والأدلة الإرشادية والمواد الدعائية لعملائنا، وتأليف سيناريوهات لإعلانات الراديو والتليفزيون، والكثير من الإعلانات المطبوعة في الجرائد والمجلات، بالإضافة إلى تنقيح وتصحيح أي إعلان قبل أن يخرج من الاستوديو للطباعة.
وبالطبع بعد عام من العمل هنا بدأت أعاني من العديد من أمراض المهنة: فأنا أرفع صوت الراديو عند الفقرة الإعلانية وأخفضه عند الأغاني، وأجلس في منتهى التركيز أمام إعلانات التليفزيون في انتظار إعلاناتنا أو لأعرف ماذا يقدم المنافسون، ثم أقوم بعد أن تنتهي الإعلانات. كما أصبحت أجد عيني تقع على الأخطاء الإملائية بطريقة لا إرادية وتأكلني يدي رغبة في تصحيحها. منذ فترة أرسل لي نفس صديقي المترجم بمنتهى الفخر المقرر الدراسي الذي يدرسه لطلابه في الخارج، وكان أول تعليق لي: "عندك غلطة إملائية في تالت سطر"، وبعد أن قلت ذلك أدركت أن المرض تمكن مني. أصبحت أرى الهمزات حيث يجب أن تكون، والتاء المربوطة مكان الهاء في آخر الكلمات، والنقاط تحت الياء في كلمات مثل "مصري" عندما يكتبونها "مصرى"، وأغتاظ عندما أرى أخطاء مثل "مساءاً" (وصوابها مساءً).
لم يكن لديهم قبلي هنا في الشركة محرر إعلاني، ومن المضحك أنني لا اعتبر نفسي ضليعة في اللغة العربية، بل هناك قواعد بسيطة جداً مازلت تختلط عَلَى وقواعد أخرى لا أفهمها بتاتاً، وبالرغم من ذلك جعلوني المحرر المسئول عن أي شيء باللغة العربية بعد خمسة أشهر من انضمامي للشركة، اقتناعاً منهم أنني أقوم بعمل جيد، وأتوا بزميلة جديدة لتكون مسئولة عن الإنجليزية لتخفيف العبء عني. يشعر زملائي في العمل بالطمأنينة والأمان عندما أقول عبارات مثل "العدد من تلاتة لتسعة يخالف المعدود" أو "ده فعل ثلاثي مش بياخد همزة في الأمر"، ويشعرون أنهم يحصلون على معلومات هامة من مصدر مسئول. ويتيح لي عملي امتياز رائع: استعمال قلم أحمر أحذف به كل ما لا يروق لي. ولكن بالرغم من حرصي الشديد على مراجعة كل شيء واتخاذي لكافة الاحتياطات عند الكتابة، فأنا متأكدة أن هناك أخطاء تغافلني، ومما لا شك فيه أن هذه التدوينة نفسها حافلة بالأخطاء.
قبل عملي الحالي، وقبل اتجاهي تماماً للترجمة، عملت فترة في مجال بحوث التسويق، وكان مكاني في الجانب الآخر من الغرفة. لا، في البداية كنت أجلس بداخل غرفة العملاء، أترجم أو أدون الملاحظات. لاحقاً تمت ترقيتي فدخلت غرفة المجيبين وكان على أن أسألهم عن نظام حياتهم، وعدد أفراد أسرتهم، ولماذا يستخدمون هذا المنتج أو ذاك. بقدر إعجاب مديري بقدرتي على إدارة تلك النقاشات، بقدر ما كان يغتاظ مني لعدم قدرتي على التحكم في تعبيرات وجهي ونبرات صوتي، فأنا إذا أدهشتني إجابة اندهشت، وإذا استنكرت كلام ما ظهر على وجهي استنكاري، الأمر الذي لا يساعد المجيبين كثيراً في التعبير عن أنفسهم. حاولت أن أتحكم في تعبيراتي ولكن بلا جدوى فكففت عن المحاولة وكف هو عن الغيظ أو على الأقل عن التعبير عن هذا الغيظ. حتى الآن أواجه هذه المشكلة، وغالباً ما اسمع تعليقات مثل: "اضحكي اضحكي...ما تكتميش في نفسك" (عندما أحاول أن ارسم ملامح الجدية على وجهي) أو الجملة الأشهر "شكلك مش مقنع خالص وإنتي بتقولي كده!" (عندما أحاول أن اكذب). تعلمت حيلة من عملي السابق لاكتشاف ما إذا كانت أي مرآة حقيقية أم زجاج مزدوج يمكن أن يكون وراءه أشخاص أشرار (مثلنا) يراقبونني: تضع إصبعك على المرآة وإذا وجدت أن هناك مسافة بين إصبعك وانعكاسه في المرآة فهي إذن زجاج مزدوج، ورجاء لا تخلع ملابسك في هذا المكان.
اليوم في المناقشة وجدت نفس الإجابات ونفس العقبات. عند السؤال الذي يُطلب فيه من المجيبين أن يتخيلوا شخصية المنتج محل المناقشة أو يحلموا بالمنتج المثالي يُسقط في يدهم. الجميع يخشى الحلم، ولكن الجميع يطمع في كل شيء. أتذكر قصيدة لأحمد: "كله بيخاف لما يعيش". المجيبات ترددن كلام مأخوذ من الإعلانات والبرامج التلفزيونية وأقرأه في مجلات الموضة عند مصفف الشعر. لا أستطيع أن أحدد أيهما بدأ أولاً: الإعلانات خلقت لغة معينة دخلت في وعي المستهلكين، أم الإعلانات أخذت من لغة المستهلكين لتشكل وعي مستهلكين آخرين؟ أنا هنا لأتعلم منهم، ولكنهم يتكلمون كالإعلانات، فمن أين أبدأ؟
ارتكبت نفس الخطأ: لم أحضر شيئاً ثقيلاً أرتديه اتقاءً لشر مكيف الهواء. في عملي السابق، ومؤخراً في كل شركات بحوث التسويق التي نعمل معها، دائماً ما أعاني من التجمد في غرفة العملاء. ولكني اليوم تذكرت أن أحضر معي زجاجة مياه والكثير من اللبان بطعم القرفة. المياه لئلا ينخفض ضغطي من الجوع والبرد، واللبان لإبقائي مستيقظة طوال الخمس ساعات التي ستستغرقها المناقشات اليوم.
حيث أنني في غرفة العملاء كعميلة فأنا غير مضطرة لكتابة الكثير من الملاحظات، فقط بعض ما تقوله المجيبات من كلمات أو تعبيرات تعجبني، لذلك استمتع برفاهية الشرود بعيداً. أفكر في باقي اليوم ومشاريعي بعد العمل: لن أعود للمكتب مع زملائي حيث أن شركة البحوث بجوار منزلي والمكتب في الطرف الآخر من الكوبري. سننتهي في الساعة الثانية. ماذا أفعل؟ معي في حقيبتي "الست ماري روز"، يمكنني أن أحتسي القهوة في أي مكان قريب أحبه، فأنا هنا بالقرب من كل أماكني المفضلة لاحتساء القهوة. أو يمكنني أن أصلح حذاء مقطوع يمكث في سيارتي منذ بداية الصيف في انتظار الإصلاح. أو يمكنني أن أتفقد المحلات والأوكازيون. أتذكر الحر خارج هذه الغرفة المثلجة فأصرف كل فكرة فيها سير في الشارع. لدي موعد مع الطبيب في المساء وندوة، والاثنان في وسط البلد. من الأفضل إذن أن ادخر طاقتي. أحياناً تروق لي فكرة أنه رغم هذا القدر الكبير من الحرية والانطلاق والاحتمالات اللامتناهية أقرر-بمنتهى الحرية والانطلاق أيضاً-أن أعود للمنزل لأنام أو أقرأ. وفي أحيانٍ أخرى تصيبني نفس الفكرة بالإحباط، خاصة عندما أجد نفسي لا أريد القيام بأي من "الاحتمالات اللامتناهية" لأني بمفردي.
مع الحلقة النقاشية الثانية يصيبني الملل فأقرر أن أقوم ببعض التمارين للذاكرة. لدي اعتقاد مبني على شيء ما قرأته-ولا أتذكره الآن كالعادة-أنني إذا دربت ذاكرتي ستتحسن وسيقل احتمال تعرضي للزهايمر المبكر. الشهور العربية تبدأ بمصر، ميم صاد راء، محرم صفر ربيع أول ربيع ثاني جمادى أول جمادى ثاني رجب شعبان رمضان شوال ذو القعدة ذو الحجة. يناير هو كانون الثاني، فبراير شباط، مارس آذار، أبريل نيسان، مايو أيار، يونيو حزيران، يوليو تموز، أغسطس آب، سبتمبر أيلول، أكتوبر تشرين الأول، نوفمبر تشرين الثاني، ديسمبر كانون الأول.
وحدها نتيجة الشمرلي كان بها التقويم القبطي الذي ما زال يستخدمه الفلاحون لمعرفة مواقيت الزراعة، وجميع الأعياد بما فيها القبطية ومواعيد النوات بالإسكندرية. لم أحفظ من الشهور القبطية سوى تلك التي أعرف لها أمثال شعبية: كيهك ("تقوم من النوم تحضّر عشاك"، كناية عن قِصر اليوم في ديسمبر/يناير الذي يتزامن مع كيهك. ويُنطق "كياك")، طوبة ("يخلّي الشابة كركوبة"، كناية عن البرد الشديد في يناير/فبراير)، وأمشير المشهور بزعابيبه والذي يتزامن مع فبراير/مارس. وكان بتلك النتيجة أيضاً دليل لخطوط سير أوتوبيسات النقل العام والميكروباص وجدول بمواعيد القطارات. كانت أسرة الشمرلي تسكن في المنزل المقابل لمنزل جدي بشبرا، وكانوا يهدونا عند كل بداية عام دراسي رزم من الكراريس والكشاكيل بمختلف أنواعها. أثناء كتابتي لهذه التدوينة قمت ببعض البحث عن أسماء الشهور القبطية فاكتشفت أنهم ثلاثة عشر شهراً، منهم شهر من خمسة أيام فقط (أو ستة في السنوات الكبيسة). لم أكن أعرف ذلك! تذكرت الآن أن هناك أمثال شعبية تُطلق على برمهات ومسرّي وتوت وبابه ولكن لا أتذكر الأمثال نفسها (ربما يجب أن أُكثر من تمارين الذاكرة تلك).
نتململ أنا ومديري وزميلتي من الجلوس هكذا طويلاً، فنحن في المكتب نادراً ما نظل على مكاتبنا أكثر من نصف الساعة. لتضييع الوقت يُخرج المدير من حقيبته كيس كبير من الدببة الجيلاتينية ومصاصات وشوكولاتة نأتي عليها كلها ويمتنع العملاء عنها حيث أن كلاهما يتبع حمية تمنعهم-بالطبع-من الحلويات. أتذكر جملة قالها طفل جميل في فيلم فرنسي، "الأكل المالح للتغذية، فقط لملأ المعدة، ولكن الحلو...امممم....الحلو هو جوهر الحياة!"
أعود للمنزل جائعة جداً لأجد المكيف معطل وأمي قد اشترت كل كتب سلوى بكر التي وجدتها عند مدبولي اليوم وجلست منهمكة جداً في قراءة "البشموري" وعازفة عن الحوار معي. أجد شيئاً غريباً جداً في طبق صغير جداً بالمطبخ تزعم أمي أنه سُبيط مشوي. بعد إضافة الكثير من الملح والليمون له أشعر أنني آكل مخلل بطعم السمك. أحتسي القليل من شوربة البارحة ثم أجد ثمرة مانجو وحيدة بالثلاجة فينشرح قلبي. أشمها بعمق لأتأكد من أنها جيدة. أجلس على طاولة الطعام ممسكة بالست ماري روز بيد والمانجو باليد الأخرى. أقضم قشرة المانجو فأجدها لذيذة فابتسم واترك ماري روز لأتفرغ للمانجو. هناك أكلات تستدعي طقوس معينة لأكلها، فالمانجو يُفضّل أن تؤكل في البانيو، درءاً للبقع، والبسطرمة يجب أن تستحم بعد أن تأكلها لتتخلص من رائحة الثوم والحلبة التي تنفذ من مسام الجسم بغض النظر عن عدد المرات التي تغسل فيها يديك بعد طبق من البسطرمة بالبيض.
لا أستطيع أن أواجه غرفتي في هذا الوقت من اليوم لأنها في الجانب القبلي من الشقة و"منقوحة" في الشمس طوال النهار. أتمدد على أول أريكة تقابلني وأنام نوم مضطرب أشعر أثناؤه أنني نمت لوقت قصير جداً واستيقظ لاكتشف أنه فاتني موعد الطبيب والندوة. حسناً...هذه نهاية غير متوقعة لكل الاحتمالات اللامتناهية. هي ليلة للقراءة إذن!
Friday, September 16, 2005
أن تنسى
أدركت اليوم أنني نجحت في تحقيق ما ظل الجميع يحثونني عليه: نجحت في التأقلم. بعد شهور عديدة تأقلمت على فكرة الفراق، وهي الفكرة التي ظللت طيلة كل تلك الشهور أستغربها ولا أفهمها: لا أفهم كيف أكون أنا هنا في حين يكون هو هناك، لا أفهم كيف يكون هنا هناك وهناك هنا، بعد أن كان كل شيء هو "هنا" وحسب. لم أستوعب. أظنني كنت أقاوم الاستيعاب.
"أبشع شيء ليس الحزن ولكن اختفاء الحزن".*
عندما قرأت هذه الجملة في حينها تعاطفت وتنهدت بحرقة، وقلت إن الموضوع برمته محزن. ولكنني أُدرك الآن أنني لم أفهم شيئاً.
من المحزن فعلاً أن تتأقلم، أن تعتاد الوضع. أن تكف عن التفكير والتذكر. أن تكف عن محاولة الامساك بتلابيب الذكريات. أن تنسى وتستكين لهذا النسيان. أن تنسى، ولا تقوم من نومك في منتصف الليل لتقرأ رسالة قديمة أو تنظر لصورة ما. أن تتخلص من هذا الوجود اللاموجود لذلك الحزن الرابض في خلفية عقلك، والذي يتحكم في كل تصرفاتك ومزاجك؛ وجود يشبه صوت جريان الدم في جسمك: هو بالتأكيد موجود ولكنك لا تسمعه ولا تستطيع تحديده أو إسكاته.
أن تنسى هو أن يمضي اليوم بدون أن تتساءل ماذا يفعل ذلك الشخص الآن. أن يمضي اليوم، والغد، واليوم الذي يليه بدون أن تتوقف لتلتفت حولك وتتساءل أين هو. أن تعتاد البُعد، أن تعتاد أن تكون وحدك، أن تقتنع أنك وحدك. من المحزن ألا تتوقع شيء، وعندما يحدث شيء غير متوقع لا يثير فيك فرح أو شجن، فقط تعجب عابر تستمر بعده في كي ملابسك والتفكير في اليوم المسجى أمامك. أن تفقد المفاجآت والمتوقعات بريقها على حد سواء، فلا تستغرب المفاجأة ولا تستنكر المتوقع.
تنسى فيصبح كل شيء بدون طعم، ليس لأنك حزين أو وحيد، ولكن لأن كل شيء فعلاً ليس له طعم. أن تفكر في شيء ما ولا تتوقف عنده، لا أن تتظاهر بأنك لا تفكر فيه...لا...أن تتخطاه وتستمر بالفعل. أن تستمع لأغنية حزينة تحبها فلا تظل تسمعها بلا انقطاع (كما كنت تفعل في الأيام الأولى)، ولا تهرع لإيقافها (كما كنت تفعل في الأيام التي تلت ذلك)، بل تسمعها ولا تتذكر حتى أنك سمعتها. أن تُسأل عن "الأخبار" فلا يؤلمك شيء وأنت تقول "تمام...كله تمام"، وتنتقل بالحوار لأشياء أخرى ملموسة أكثر، لتتكلم عنها بصدق واستغراق وبدون أي تظاهر بالاهتمام.
أن تنسى هو أن تكتشف الصمت، بعد صخب كل تلك الأفكار وكل ذلك الكلام الذي تتمنى أن تقوله. أن تختزن الحكايات، وعندما يحين وقت قصها تشعر بأنك فقدت الرغبة في الكلام، وتقتنع بأن الآن ليس الوقت المناسب. تنسى أن نصفك الآخر مريض، أو حزين، أو لديه مشاكل ما، فلا تؤنب نفسك على هذا النسيان، بل تنسى أنك نسيت. أن تنسى هو أن يصبح السؤال "كيف سأتأقلم على الوجود"، بعد أن كان "كيف سأتأقلم على الغياب".
وتظن أن كل ذلك النسيان سيحررك، سيجعلك تعيش حياتك بطريقة أكثر طبيعية، سيجعلك أكثر اتساقاً مع واقعك، فتفاجأ أن الموضوع تعدى مجرد تفادي العائلة والأصدقاء، الخروجات والزيارات، والتوقف عن ممارسة ما تحب، فلقد أصبحت فعلاً تتوق للعودة إلى المنزل والنوم مبكراً لتُنهي هذا اليوم بيدك، لتشعر أن وسط كل هذا العبث مازال لديك الاختيار بين أكثر من طريقة لإهدار أيامك.
* بهاء طاهر من قصة "أنا الملك جئت".
Wednesday, September 14, 2005
Thursday, September 08, 2005
من جوه اللجنة
دي صور أخدتها في اللجنة الانتخابية بنادي السكة الحديد بمدينة نصر
ميكروباص ضمن 11 ميكروباص تبع مصطفى السلاب عضو مجلس الشعب عن دائرة في مدينة نصر. الميكروباص ده وأصحابه راح وجه من عزبة العرب تلات مرات وده من الصبح لحد الساعة 3 لما رحت اللجنة
مواد دعائية لحسني على باب اللجنة
اقبال جماهيري فظيع على التصويت (أغلب الناس ما لقيتش أسماءها في اللجنة دي أو لقت رقمها باسم أو اسمين مختلفين وفي الآخر قالوا لهم يروحوا يصوتوا في لحنة في عثمان بن عفان)
وآدي قائمة بأسماء الناخبين...بعون الله هتلاقي اسمك...هي القائمة مش مترتبة أبجدي...والأرقام غلط...ورقمك غير اسمك واسمك غير رقمك...لكن إن شاء الله خير.
ولا كأننا في طيارة...شاب شيك ظريف بيشرب مارلبورو لايت وعصير جهينة ولابس قميص مشجر بياخد منك ورقة شبه البوردينج باس اللي بتطلع به الطيارة وتقعد في كرسي جنب الشباك أو على الممر...ده طبعاً لو انت جاي تبع الحزب الوطني ومندوبين الحزب اللي في اللجنة ادولك الورقة دي من غير لا بطاقة بامبي ولا حاجة...الأخضر ثم الأخضر ثم الأخضر
ده شكل البوردينج باس (boarding pass) إياه
ده منظر للجنة من جوه...اقبال اقبال يا ربي...بيحوشوا في الناخبين مش قادرين. الصورة باين فيها ورا الولد عسكري قاعد. ده في منه على باب كل لجنة
محتاس...نفسه ينتخب...غالباً أسهل له إنه يغير اسمه من إنه يلاقي اسمه الحقيقي في القوائم دي
طبعاً جه وقت الغدا وكل الناس (إياهم) أكلت...إحنا اشترينا ميه وشربنا الحمد لله
بسم الله الرحمن الرحيم...شادي من مدرسة الوطني يوكل...إجابة السؤال الأول: مصر...والثاني: نعم...والثالث: أيوالله
المتسابقة الفائزة
صورة مهزوزة خالص بس دول مندوبين الحزب الوطني اللي بيطلعوا للناس بتوع الحزب ورقة الحزب علشان ينتخبوا (الحزب برضه)
طبعاً مافيش دعاية للريس جوه اللجان...انتوا هتهرجوا!
ده صباع مها...متفسفر خالص
وده نفس الملصق الدعائي بس الساعة 9 بليل
ثريا لبنه بقى كانت عامله تسهيلات للمواطنين اللي هيموتوا ويصوتوا...بلا بامبي بلا خوتة!
Wednesday, September 07, 2005
التردد يا عزيزي أيـبـك
5 سبتمبر صباحاً:
طب وبعدين...أنا دلوقتي عاوزه أروح انتخب ومش معايا بطاقة انتخابية. في ناس بتقول إني ممكن يومها أروح القسم ويطلعوا لي بطاقة في ساعتها، ودي حاجة أنا مستبعداها، وفي ناس قالت لي أروح القسم وأقول إن بطاقتي ضاعت وأطلع بدل فاقد ودي حاجة ناس نجحت تعملها وناس تانية قالوا لهم امشوا انجروا من هنا.
ها...أعمل إيه؟
تحديث بتاريخ 7 سبتمبر الساعة 2 الظهر:
ما ينفعش تنتخبوا بالبطاقة الشخصية فقط، بس ينفع تطلعوا البطاقة الانتخابية بطريقة بدل الفاقد حتى لو ما طلعتوهاش قبل كده...أهم حاجة الإنكار التام...تقولوا إنكم مش فاكرين طلعتوها منين ولا ضيعتوها فين :)
وسمحوا لممثلي المجتمع المدني من المرصد الانتخابي يراقبوا الانتخابات، في بعض اللجان منعوهم يدخلوا جوه اللجنة، وفي بعضها سمحوا لهم ودخلوا وقاعدين مع القاضي دلوقتي.
وسنوافيكم بالأخبار تباعاً!
Sunday, September 04, 2005
كيف يبايعون الرئيس في شارعي
ألف وأدور في الشوارع الجانبية حتى أستطيع أن أدخل للشارع الذي يقع فيه كوافير محمود بدون أن اضطر للدخول في معمعة الشارع الرئيسي. يخطر لي للمرة الألف أنه كان من الأسهل أن اذهب للكوافير سيراً. تلفت نظري لافتة ضخمة على أول شارعنا الجانبي الصغير: "كوافير هنومة يبايع السيد الرئيس حسني مبارك". لا أدري لماذا أذهلتني هذه اللافتة بالذات في خضم اللافتات التي سدت نور الشمس في الفترة الماضية. ربما لأني أعرف هنومة شخصياً، وزوجها وابنها الذي مات بجرعة مخدرات زائدة، وأعرف أنها ليس لها مواقف سياسية ولا حتى لا سياسية، كما أعرف أنها ليست عضو في مجلس الشعب، ولا أظنها تطمح لذلك. فلماذا إذن هذه اللافتة؟
وصلت عند محمود (وهو شخصية تستحق مسلسل رمضاني كامل وليس فقط قصة صغيرة)، وسلمت عليه ثم رسمت على وجهي إمارات الاستنكار الشديد: "إيه يا محمود؟! إيه اللي إنتوا فيه ده! إزاي لحد دلوقتي ما حطيتوش يافطة مبايعة الريس؟!"
هز محمود رأسه أسفاً: "والله أنا قلت لشريكي لكن هو رفض...رغم إني كنت ناوي أعمل حاجة مختلفة خالص!"
فاجئني رده فأخذت في الضحك: "حاجة مختلفة خالص إزاي يعني؟ كنت هتعمل له "هايلايت"؟ ولا "نيو لوك" بفورمة جديدة؟!"
"اضحكي اضحكي...أنا باتكلم جد. أنا كنت ناوي اعمل من الناصية بتاعتي للناصية اللي ادامي تعليقة من القماش بتاع الصوان...الملون ده...واكتب على قماش نضيف كده "كوافير محمود يبايع السيد الرئيس...برنامج خاص للعرائس" واجيب فروع نور بتطفي وتنور كده...ولا حد يقدر يجي يقول لي شيل اليافطة دي".
"ومين يقدر يجي يقول لك شيل يافطة الريس؟"
"لأ مش يافطة الريس...يافطة دعاية المحل...تكونيش فاكره إن كل اللي حاطين يفط دول بيبايعوا الريس بصحيح؟ ولا يكونوا منافقين وحشين؟ لأ! دي كلها دعاية...أيوه طبعاً! دول بيعملوا دعاية لنفسهم على قفا الانتخابات. هو أنا لو حبيت اعمل التعليقة دي على إنها دعاية للمحل تفتكري بتوع الحي هيسيبوني؟ لأ طبعاً! ده إنتي علشان تحطي أي يافطة أو تعاليق نور في الشارع لازم تجيبي إذن من الحي...والحي يوافق لك أو ما يوافقش...وكمان يقول لك تحطي كام لمبة في فرع النور!"
خرجت من عند محمود بشعر أكثر نعومة ومخ أكثر استنارةً. شكرته بحرارة قبل أن اخرج، فلولاه لكانت أخذتني الظنون بهنومة وتوجهاتها، وربما كنت قاطعتها أيضاً!
Saturday, July 23, 2005
تنويعات عبثية في مقام ليه الكبير
(1)
فلان وفلانة أمام مبنى السينما في ليلة شديدة البرودة في انتظار بقية أصدقائهما ليدخلوا الجزء الثاني من "باب الشمس".
"وإنتي مارحتيش الشغل النهارده ليه؟"
"عيانة! تعبانة جداً...هم هم هم...عندي برد في المعدة بقالي يومين...هم هم هم...بقالي يومين ما اكلتش...هم هم هم...معدتي متبهدله!"
ينظر إلى ساندويتش الروزبيف الضخم في يدها. تشعر من نظرته بعدم تصديقه لكلامها.
"شكلك مش مصدقني".
"بصراحة لأ...مش مقنعة إنتي خالص...لازم تبذلي مجهود أكبر من كده لو ناويه تكدبي...منين برد في المعده ومنين عماله تاكلي الساندويتش الفظيع ده؟"
"بقالي يومين ما اكلتش! يعني أموت من الجوع؟!"
"لأ...بس لما تاكلي يعني تاكلي ساندويتش من الشارع؟!"
تقضم قطعة كبيرة من الساندويتش وتستمر في القفز ليدب الدفء في أوصالها وتبتسم ابتسامة واسعة وتقول: "ما أنا بقيت كويسة خلاص!"
(2)
"كلميني. مش معايا رصيد"
"لأ مش هاكلمك. ماليش نفس"
"يا بت كلميني! كلميني من باب الزكاه"
"إنتي لا تجوز فيكي الزكاه يا بنتي...إنتي من المؤلفة عقولهم!"
(3)
فلانة وأخوها فلان وصديقتها علانة في ندوة عن استخدام الرمزية في الفن. في الاستراحة يخرجوا للحديقة ليستطيع فلان أن يدخن. تهمس لهم علانة أن الفتاة التي تتحدث في المحمول في الحديقة كانت معها في الكلية. فجأة تُنهي الفتاة المكالمة وتستدير لترى علانة.
"إيه ده! مش إنتي علانة اللي بتغني؟!"
"أيوه! مش إنتي صاحبة ترتانة؟ وهي فين دلوقتي؟ أنا سمعت إنها بترقص".
"أيوه فعلاً هي بترقص دلوقتي".
"ألف مبروك! ربنا يوفقها".
(4)
أنا بحب كلمة "قاتل الألم"...باحس إنه حاجة فعالة أوي...زي المبيد الحشري كده.
وبحب الستاير البلاك أوت. بتديني إحساس باللازمان واللامكان...يعني ممكن دلوقتي أكون رائدة فضاء في مكوك مثلاً.
وأول مرة ليا في قطر النوم التكييف كان ساقع جداً وكان في راديو مركزي شغال في كل الكباين محسسني إني راكبة بسكلته وحاطة راديون ع الجادون!
(5)
يرن الهاتف. تُفزع من نومها وتمد يدها تحاول أن تجده في ظلام الغرفة.
"الو..."
"إنتي نايمة؟"
"لأ!"
"امال صوتك عامل كده ليه؟ صوتك نايم خالص".
يُسقط في يدها. لا تريد أن تُشعرها بالذنب لأنها أيقظتها من النوم.
"لا أبداً...أصل أنا بس كنت قاعده في السرير ساكته".
تضحك: "قاعده في السرير ساكته يعني نايمه".
(6)
"إنتي لازم تفكري لنفسك في اسم من بتوع الهنود الحمر...واسم ينفع لشخصية الساحرة....واسم بوست مودرن"
"اسم بوست موردن؟! زي إيه مثلاً؟ البت المتعولمة؟!"
(7)
فلانة وعلانة بالبيجامات احتلت كلتاهما أريكة في غرفة المعيشة المريحة، تتناوبان طلاء أظافرهما من نفس زجاجة طلاء الأظافر.
"هو أصلاً ابن الذين عاوز يطلقها....الموضوع مش موضوع تخس ولا تتخن ولا تسيب دراستها...دي كلها تلاكيك!"
"أيوه! هو عاوز واحده يرجع يلاقيها مستنياه بقميص النوم الشفتشي ومظبطة نفسها وحاطة مكياج بقى ومانيكير وحركات!" تصمت لحظة ثم تقول: "زينا كده!" وتنفجران في الضحك.
(8)
رحاب وشهاب يحضران ندوة ما. في الاستراحة تسلم رحاب على أصدقائها. يسألها الكل سؤال واحد: "إزيك؟ وإزاي سميرة؟ وفين سميرة؟" ورحاب ترد وتبتسم وتعدهم بالمزيد في القريب. وسط كل هذا يقول شهاب: "رحاب...تعالي ثانية واحدة أنا عاوزك" وينتحي بها جانباً. بجدية شديدة يسألها: "هي مين سميرة؟"
(9)
الثامنة صباحاً. محاضرة لغويات مملة. يمكنها أن تضبط جهازها العصبي على صوت الأستاذة الرتيب وتذهب في نوم عميق. السبب الوحيد الذي جعلها تحضر تلك المحاضرة هو أن اليوم الثلاثاء أي محاضرات من الثامنة صباحاً للثامنة مساءً في نفس المدرج، وإذا لم تحجز مكاناً من أول النهار لن تجد مكاناً في محاضرة أستاذتها المفضلة. لأول مرة في حياته يدخل أخوها كليتها. يجلس بجوارها في آخر المدرج يتفرج حوله بانبهار. فجأة يلكزها في جنبها وهي تحاول أن تضع طلاء الأظافر الأحمر القاني.
"الحقي! فلانة!"
تنظر فتجد فلانة نائمة.
"مالها؟"
"نامت!"
"طب وإيه؟"
"افرضي الدكتورة شافتها؟!"
"تشوفها؟! يا طيب! يا ابني احنا قاعدين في آخر المدرج...وده تاني أكبر مدرج في الكلية! شوية وهتلاقي باقي الناس نامت ماتقلقش. ما هو احنا لازم ننام عشان نقدر نكمل اليوم! تاكل جبنة ولا بطاطس؟ علانة معاها ساندويتشات النهارده".
(10)
"كل ما آجي اشتري حاجة فلانة تقوللي ده سلوك استهلاكي...إنتي مش محتاجة الحاجة دي"
"واضح إن فلانة بقت شيوعية. بعد كده ابقى انزلي معايا أنا...أنا رمز من رموز الرأسمالية"
(11)
"قومي يا فلانة صورينا"
"لأ مكسلة أوي...قومي إنتي يا علانة"
"لأ لو قمت هأنام على روحي وأنا واقفة، قوم انت يا فلان"
"واشمعنى أنا اللي أقوم يعني؟"
"مش أنت اللي قلت نتصور؟"
"لأ أنا مش قادر اتخيل إني اقوم من الكرسي".
"طب ما ننده على حد من الجرسونات يصورنا..."
"اللي قادر ينده ينده...أنا هأنام دلوقتي حالاً..."
"بصوا...زي ما أنتوا كده...هاتي يا فلانة رجليكي كده شوية...أيوه.."
لم يبق من هذه الليلة المقمرة في دهب غير صورة لثلاثة أزواج من الأرجل تستند على مقعد صغير.
(12)
"لأ أنا رأيي إننا لازم يبقى شكلنا مجنون...مش بس تصرفات وكلام! لازم نلبس هدوم مجانيني!"
(13)
إنه الصيف والعمل بطيء. اقترح أن يتذكر كل منا نكتة "عبيطة" ولكنها مع ذلك مضحكة جداً. أقول أنا إن نكتة "طماطمتين بيعدوا الشارع" هي أعبط نكتة سمعتها في حياتي ولكني كلما اتخيل الموقف اضحك جداً. تقول فلانة إن نكتة "واحد داسته عربية 126 مات من الضحك" هي النكتة التي تقضي عليها، وتقول علانة إن نكتة "افتحي يا سيدة الصفيحة هتموتني" هي نكتتها المفضلة، في حين اتذكر نكتة الذي فتح الثلاجة ليشرب فوجد قالب "جيلي" يهتز فقال: "ما تخافش ماتخافش...أنا هاشرب بس"، وتطلب مني فلانة أن أقول لهم نكتة "عندما تقول للضفدعة نطي...تنط".
(14)
أنا في المول بأبص على هدوم وعندي إحساس بالـ"ديجا فو": موديلات كتير وألوان كتير بتاعت الموضه السنه دي لبستها في إعدادي أصلاً. أكيد مش علامة كويسة إن الواحد يلبس نفس الموضة مرتين في حياة واحدة!
(15)
"لو سمحت...لو سمحت! عبده تلوث فين من فضلك؟"
"حضرتك المنطقة هنا كلها اسمها بكتيريا"
في اليوم التالي:
"على فكره! إحنا أكلنا في عبده تلوث مزور!"
"يا مصيبتي! اتنصب علينا في التلوث؟!"
"حكمتك يا رب! حتى التلوث بقى مضروب في البلد دي!"
(16)
"الحقيني! الرومانتيك ماسكين في خناق النيو-كلاسيك ومش راضيين يسيبوهم إلا لو درايدن لبس طرحة وقال أنا اسمي سوسن!"
(17)
"بتعملي إيه؟"
"ع النت باتابع خط سير الطيارة. الموضوع واخد معايا أبعاد سيكوباتية. أنا هامشي وراه وأراقبه بقى...واتصل بيه في التليفون وما اردش واقعد اتنفس في السماعة زي القتلة المحترفين!"
"دي مش أبعاد سيكوباتية! دي أبعاد إجرامية!"
(18)
أنا راكبة تاكسي والراجل معلق في المراية سبحة ودعاء الركوب وهيكل عظمي بلاستيك! إيه العلاقة؟! صباح الخيال المريض! إيه اللي يخلي أي حد يعلق هيكل عظمي بلاستيك جنب السبحة ودعاء الركوب؟! عظة يعني؟
(19)
"هو الشغل كويس بس مش لاقية نفسي فيه أوي يعني".
"إنتي عايزة تشتغلي في الترجمة وبس؟ إنتي حلك بقى إنك تستني عصر النهضة".
"متخيلة نفسي عجوزة جداً وباكتب بريشة بقى ومستنية عصر النهضة..."
"أو أقولك...إنتي تلحقي عصر النهضة في بلاد تانية".
"وهي النهضة فين اليومين دول؟"
"حالياً مافيش للأسف. بس إنتي ممكن بقى تعملي حاجة تانية: تترجمي من العربي للإنجليزي".
"وإيه الجديد في ده؟"
"لأ ما انتي بقى تترجمي حاجات محدش ترجمها قبل كده! عندك مثلاً....أديب الشباب! ترجميه وابعتيه بره...واهو كده نبقى ضربنا عصفورين بحجر: عملتي شغل ترجمة ونهضة، وجبتي تخلف لبلاد بره!"
"لأ أنا عاوزة اترجم لجمال الدين الدولي".
"لأ الدولي مش هيلعب مع الناس بتوع بره لإنه بينادي بإلغاء الثانوية العامة وهم هناك لغوها من زمان".
(20)
"الحياة عبارة عن صراع دائم بين الخير والشر...الفضيلة والرذيلة....الرجيم والشوكولاتة!"
(21)
"أنا حاسس إني ضايع...تايه...حاسس إني مش عارف أنا مين!"
"دي حاجة رائعة!"
"رائعة؟!"
"أيوه! حيث إنك مش عارف انت مين...يبقى ممكن تبقى أي حد تختاره! مش هتبقى خسران حاجة لإنك أصلاً ضايع! دي فرصة ممتازة لإعادة اختراع نفسك!"
(22)
"أنا خايف يقبضوا عليا ويقولوا إيه الاجتماعات اللي بتعملوها دي...ثقافة إيه ونيلة إيه!"
"لأ ما تخافش...هم عادةً في المواقف دي بيخطفوا أختك أو حبيبتك أو الكلب بتاعك رهن عندهم، وحيث إنك ماعندكش حبيبة أنا باقول تجيب كلب عشان تفدي أختك".
(23 )
نستعد لتناول طعام الغداء في العمل. ينادي علىّ فلان: "رحاب...هي إشارة المرور ترتيب ألوانها إيه؟"
"أحمر أصفر أخضر".
"شكراً".
أميل على فلانة: "هو أنا بأشتغل إيه هنا بظبط؟! اشمعنى بيسألني أنا؟"
"يمكن عشان إنتي المثقفة اللي فينا"
"ربنا يسامحك! أهو إنتي!"
(24)
السنة اللي فاتت كانت الموضة المانجه الصغيرة. السنة دي الخوخ الصغير. العالم—كما نعرفه—ينكمش بسرعة رهيبة!
(25)
تقوم فلانة من على مكتبها وتقف أمام مكتبي لتسألني: "إنتي طول عمرك كنتي مهرتله كده ولا الحكاية دي بتيجي بالتدريب؟"
Thursday, June 30, 2005
الدفء
يباغتني البكاء بوقاحة، ولأني لم أكن مستعدة، استسلمت بغيظ. أبدأ في البكاء وأنا في السيارة، عائدة للمنزل بعد يوم عمل طويل وبارد...بارد. تفاجئني غزارة الدموع. لا أعرف ماذا أفعل بنفسي. أخشى أن أغرق في سيارتي. لا أبكي فحسب، بل انتحب بصوت عالٍ. أرى نفسي من خارج الإطار: فتاة تبكي وتعلو سيارتها الصغيرة بالونة بها "إهيء...إهيء" كقصص الأطفال المصورة. صورة باعثة للشفقة. أبكي أكثر.
أفكر في خياراتي: لا أريد أن أعود للمنزل على هذه الهيئة، ستُذعر أمي. أقرر أن أقود بلا هدف لبعض الوقت. تزعجني نظرات ركاب السيارات المجاورة. أقرر أن اتجه للطريق السريع. أقود لمدة خمس دقائق، ثم يعود إلَى إدراكي السليم شيئاً فشيئاً، فأُدرك أن قيادتي وحدي في الليل على الطريق السريع ليست بالتصرف الحكيم. أخشى أن تتعطل سيارتي أو يضايقني أحد سائقي الشاحنات الكثيرة التي تحيط بي. أرى نفسي كتكوت مبتل وتائه وسط قطيع من الأبقار. أبكي أكثر. أسلك أول مخرج وأعود للمدينة. أنا في الأساس ضد القيادة بلا هدف.
ماذا أفعل الآن؟ البكاء لا يريد أن يتوقف. تخطر على بالي فكرة تأجير غرفة في فندق مجاور. ولكن ماذا سيقول العاملون بالفندق إذا سمعوا أصوات بكائي من خلف باب الغرفة؟ سيظنون أن أحداً يضربني أو في أحسن الأحوال سيظنونني مجنونة. تفاصيل...تفاصيل...والمزيد من التفاصيل العبثية. أنا بردانة...بردانة جداً. أين يمكنني أن أبكي بدون إزعاج؟ السينما؟ أتفقد الساعة فأجدها تجاوزت العاشرة مساءً. أين إذن؟ أفضل مكان للبكاء هو مكان كئيب أصلاً. ماذا عن المقابر؟ تنتابني رعشة وقشعريرة. صورة ذهنية واحدة للمقابر ليلاً في هذا الجو البارد صرفت الفكرة تماماً.
تنقذني مكالمة هاتفية.
"إزيك!....إيه ده صوتك عامل كده ليه؟....بتعيطي؟! إيه اللي حصل؟....طيب إنتي فين؟...طيب أنا في بيتنا اللي هنا...هننزل نستناكي تحت البيت...ماتروحيش...ما تطنشيش...إحنا واقفين في الشارع اهوه..."
يتبقى لدىّ قليل من البكاء أفرغه في حضن صديقتي. مجرد وجودها مع زوجها صديقي في سيارتي الصغيرة يجعل الحياة أدفأ. تحاول أن تتكلم معي وأحاول أن أتكلم وسط بكائي. في المقعد الخلفي يجلس زوجها صامت تماماً يحاول أن يفهم. عندما يتكلم يقول إنه لا يستطيع أن يصدق أنني أبكي لأنه كلما يفكر فيّ يضحك. أدرك أنني لا أريد الكلام، فقط أريد أن أبكي. أرانا جميعاً من خارج الإطار: ثلاثة أشخاص بملابس ثقيلة مكدسون في سيارة صغيرة، بخار يتجمع على نافذة السيارة الأمامية، والفتاة التي تجلس في مقعد السائق تبكي وترسم على بخار أنفاسها مربعات ومكعبات.
بمكالمة قصيرة ولفة صغيرة من مقود السيارة انخفضت احتمالات إصابتي بالجنون، أو أن يضايقني أحد، أو أن يأخذ أحد المارة على عاتقه عبء حل مشاكلي أو إسداء أي نصيحة، أو أن يختطفني أحد، أو أن تهاجمني العفاريت، وانخفضت احتمالات أن أتجمد من البرد على قارعة الطريق. الدفء إحساس داخلي فعلاً.
Friday, June 03, 2005
نظريتي اللغوية
لدى نظرية لغوية تتلخص في أن حروف الكلمات تعطي شكلاً لمعانيها وتعبر عنها. حاولت أن أعرض نظريتي على من احترم أرآئهم في اللغة، ولكنهم قالوا إنه مجرد ارتباط شرطي في عقلي بين معنى الكلمة وشكلها. لا بأس...شرطي شرطي! بعد سنوات من دراسة النظريات اللغوية الغامضة (والعقيمة في بعض الأحيان)، أصبح لدي نظرية لغوية خاصة بي وهذه فرصتي لأعرضها.
تأمل معي كلمة "دهشة". تبدو لي الهاء ونقاط الشين كحاجبين مرفوعين لشخص مندهش. وحتى التاء المربوطة (عادةً تنطق هاء) تبدو لي هنا وكأنها شخص يقول: "هه؟!" باستغراب ودهشة...هه...هه.
وكلمة "ذهول". الذال مرتبكة كشخص يحاول أن يجد الكلمات وسط ذهوله. والهاء هنا تأخذ شكل عينين مفتوحتين تبرقان. والواو بالتأكيد فم مفتوح نسى صاحبه في غمرة ذهوله أن يغلقه. واللام خاطفة ولكنها طويلة، كالوقت. هل لاحظت أنه غالباً ما تشعر بالزمن طويلاً عندما تكون مذهولاً؟
أما كلمة "غضب" فهي مثالي المفضل. تأمل الغين: شكلها يبدو لي كالزمجرة...غغغغغغ...تمهل في نطقها بصوت عالٍ. أما الضاد فهي تشبه تقطيب الغاضب وتجهمه. والباء نهائية، مقتضبة وحاسمة، كشخص يزم شفتيه بعد ثورة غضب...ببببب.
وخذ مثلاً كلمة "احتلال": فيها أربعة حروف تكتب عمودية. تبدو لي الألف واللام هنا كالبنادق، كالأسوار، كالأيام السوداء التي تأتي عليك قطعة قطعة، كالليالي الطويلة التي يقضيها المقهور في الانتظار وبناء الأمل تلو الأمل، والحاء وضيعة وخسيسة ومتسللة، والتاء صادمة كلحظة اكتشاف الخيانة.
وكلمة "وطن" واوها يد تمتد لك لتحتضنك (أو تقرصك من أذنيك أو حتى تصفعك). والطاء طين وطمي تزرعه ليعطيك (أو تغوص قدمك فيه فلا تقوى على الحركة وتلبث في مكانك سنوات). والنون نيل، رقراق ورائق (أو ملبد وهائج). والوطن مكان وزمان. تسمع اسمه فترى صور صغيرة جميلة (أو صغيرة قبيحة). تسمع اسمه فتتذكر (ذكريات في الماضي أو في المستقبل). تسمع اسمه فتبكي وتضحك وتجد نفسك مندفعاً بسرعة لحافة الجنون. تسمع اسمه فتركض وتركض لتصل للنهاية، فإما تقفز وترتفع لتتحول لنجمة تضيء الطريق، أو تقفز وتسقط وتتهشم وتتحول إلى كيان مَنسي آخر يضاف إلى آلاف الأشلاء التي لا يعبأ بها أحد.
أضع "الوطن" و"المحتل" بجوار بعضهما. اقرأ: "الوطن المحتل". يستحضر عقلي فوراً حكايات الأسرى واللاجئين. أرى المستوطنات نظيفة وأنيقة، وأرى الخيام تبدو دائماً وكأنها ستنهار في هذه اللحظة بالذات. أرى الجدار العازل والأسلاك الشائكة والأطفال يجعلون من الجدار مرمى لكرتهم. أرى السيدة الفلسطينية التي تحكي عن أرضها التي بُني عليها الجدار. أرى اليوسفي يكاد أن يعطب في صناديقه عند بوابات الحراسة، وأشجار الزيتون المخلوعة من جذورها. أرى الأمهات والآباء، من أوصل الرسالة ومن لم يوصلها. استحضر حكايات المعتقَلين والفاسدين، المجني عليهم والجناة، المفعول بهم والفاعلين. أرى طريق صحراوي طويل في آخره ليمان طرة في يوم حار ومترب وأحمر. أرى سيدة تمضي وقتها في الطهي لابنها وعندما تذهب لتراه في المعتقل لا يسمحون لها...لعاشر مرة. أرى أب في الشارع يمشي بصورة ابنه الذي لم يره منذ سنوات، يحكي حكايته ويستمر في السير يجر خلفه صوته المكسور. أرى النخيل على ضفاف النيل في أسيوط. أرى السيدة التي تنام تحت الكوبري، لسنوات، حتى لم أعد أدري أين تنتهي السيدة ويبدأ سور الكوبري. أرى تلك السيدة التي نجحت في محو أمية رجال قريتها. أرى طفل بوجه متسخ على عربة قمامة يبتسم لي في لقطة تكاد تكون جزء من حلم لجماله وجمالها. أرى السيدة الأخرى التي لا تملك في منزلها غير غسالة يدوية: تقف عليها وتقول لي إنها لا تستعمل ذلك المسحوق لأنه يهودي. أرى إعلانات لا حصر لها لهذا المسحوق. أرى رجل يمشي في الشارع لا يستره سوى بضعة عبوات ورقية مكتوب عليها "أسمنت مصر". أرى صديقتي وهي تحكي لي عن مزرعتهم التي كانوا يزرعون فيها القطن حتى تحول الأبيض إلى أحمر محترق بين ليلة وضحاها بعد المبيدات. أرى غاندي يغزل ويغزل. أرى الدهشة والذهول والغضب ثم الغضب ثم الغضب.
من حافظتي انزع قطعة قماش الحطة الفلسطينية التي احتفظ بها واضع علم مصر.
Saturday, May 28, 2005
الأول من يونيو 2005 - يوم الحداد
مصر كلها سترتدي السواد الأربعاء 1 يونيو 2005، حداداً على ما ارتكب في حق نساء مصر يوم 25 مايو 2005 من قبل مرتزقة الحزب الوطني تحت مرأى ومسمع الشرطة
تطالب رابطة الأمهات المصريات بمطلب واحد عادل: استقالة وزير الداخلية
يمكنكم قراءة المزيد هنا وعند علاء وعلياء ورامي
وهذا رد المتحدث باسم رئاسة الجمهورية
شكراً لألف على لافتة الحداد
تحديث بتاريخ 29 مايو: أفكار لتنظيم أفضل عند تواصل ومن القاهرة وواحدة مصرية
تحديث بتاريخ 31 مايو: غداً الأربعاء اعتصام بنقابة الصحفيين الساعة الواحدة ظهراً تضامناً مع رابطة الأمهات المصريات وكل من تعرض للأذى يوم الأربعاء الأسود
وخمس منظمات حقوقية تتضامن مع الدعوة إلى يوم الحداد الوطني
ووثيقة تضم شهادات لبعض ممن حضروا مظاهرات الأربعاء الأسود
تحديث بتاريخ 1 يونيو: نقلاً عن محمد: حسب موقع العربية ، فان من بدأت الدعوة للحداد هي هبة رؤوف عزت
Thursday, May 26, 2005
عناوين الصحف
أنزل الدرج مسرعة. فرصتي الوحيدة لتفقد عناوين الصحف هي تلك الثواني التي يستغرقها نزولي الدرج. أقرأ العناوين من الصحف الملقاة أمام أبواب جيراننا في الطوابق الأربعة. لدينا جار وفدي، وآخر ناصري، وآخر يفضل الأخبار على الأهرام، وجار طبيعي يقرأ الأهرام.
أمام باب جاري الناصري وجدت العربي مقلوبة على ظهرها فأكملت نزولي. أمام باب جاري الأخباري قرأت بالبنط الأحمر العريض: "جماهير الشعب قالت كلمتها في الاستفتاء – مشاركة شعبية كبيرة في الاستفتاء علي تعديل المادة 76 من الدستور شملت كل المحافظات – الاستجابة الجماهيرية أسقطت دعوة بعض أحزاب المعارضة للمقاطعة". أمام باب جاري الأهرامي قرأت: " الشعب يرد بقوة على المطالبين بالمقاطعة وعدم أداء الواجب الوطني". أمام باب جاري الوفدي قرأت: "فضيحة الاستفتاء" وحسب، بعد الصفحة الأولى السوداء التي لاحظتها أمس حداداً على "نكسة 76" على حد تعبيرهم.
في الطريق استمعت إلى جاهين يلقي "على اسم مصر" محاولة أن أفك معانيها. اكتشفت إنني لا أفهم الجزء الخاص بحتحور المنتقمة الدموية الحانية.
أصل إلى البناية التي أعمل بها. في المصعد يجلس عامل المصعد على مقعد صغير منكباً على صحيفة أخبار الحوادث ويقرأ باهتمام مقال عنوانه: "اعترافات: طالبة الدبلوم فتاة ليل محترفة".
Tuesday, May 10, 2005
من دفتر مذكرات أمي
الثلاثاء – العاشر من مايو 1977 – الثاني والعشرون من جمادى الأولى 1397
وُلدت "رحاب" الساعة التاسعة صباحاً في منزلنا بغمرة. كان لرحاب وقع جميل ورائع على كل من في البيت: ماما – أختي – بسام – بابا – أخي. تعبت شوية ولكن كل الآلام تبخرت بمجرد رؤية رحاب.
كل سنة وإنتي طيبة يا ماما. تعبتي كتير أنا عارفه...لكن يا رب أقدر دايماً أخلي كل الآلام تتبخر كده.
Saturday, May 07, 2005
أصحابي الخياليين
حسناً. الموضوع يستحق الاحتفال، فلقد انتهيت من كتاب استعمار مصر لتيموثي ميتشل! الكتاب أكثر من رائع وأتمنى أن أتمكن في يوم من الأيام أن اكتب ملخص عنه. أراجع التاريخ الذي بدأت فيه قراءة الكتاب فأجد أنني بدأته في نوفمبر 2004. آه ياني...آه من الحيل التي يمارسها الإنسان على نفسه (الدنيا حر، الدنيا برد، الدنيا صبح، الدنيا ليل، ماليش مزاج، مش في الموود، زهقانة، مكتئبة، طيب أخلص الغسيل، طيب أخلص ترويق الدولاب، طيب اطلع الشنطة دي من تحت السرير وأشوف فيها إيه، إيه ده...ده فيها ورق قديم أوي...طيب هاشوف إيه الورق ده وهاذاكر على طول، طب اسمع الأغنية دي، الله...ده أنا كان نفسي ومنى عيني أشوف الفيلم ده، يووووه...الدنيا حر!)و
راجعت دفتر مذكراتي فاكتشفت إني خلال تلك الشهور الست نفسها قرأت ما يقرب من العشرين كتاباً. طيب اشمعنى دول يعني اللي الدنيا بتيجي عندهم ومش بتبقى حر؟
القراءة بالنسبة لي ولع يتمكن مني فاقرأ في أي وكل مكان واحمل معي كتاب في حقيبتي وغيره في سيارتي دائماً (يمكن ألاقي وقت). وعندما أسافر، وحتى إذا كان السفر ليومين، دائماً ما احمل كتب لا ولن اقرأها في هذه المدة (بس يمكن وأنا هناك يبقى نفسي اقرا الكتاب ده بالذات!). اقرأ كأني ابحث عن شيء. اقرأ كأني اهرب من شيء
بالرغم من لساني اللاذع وقوة ملاحظتي وقراءاتي ودراستي إلا إنني لا أجيد النقد الأدبي. كل ما أستطيع أان أقوله عن كتاب أو آخر هو ما إذا كنت أحببته أم لا. سأحاول في السطور التالية القيام بأول نقد أدبي لكتاب في حياتي. أنا ضد "حرق" الحبكة أو القصة لأحد لذلك سأشارككم انطباعاتي فقط عن تلك الكتب
كتاب العام بالنسبة لي سيكون العطر لباتريك ساسكيند. بالرغم من أن ما زال هناك سبعة أشهر على انتهاء العام ولكني متأكدة أنه لن يستحوذ عليّ كتاب هذا العام كما فعل "العطر". فكرة الكتاب نفسها في منتهى الروعة: فكرة جديدة وأصلية ستجعلك تفتش في ذاكرتك عن الروائح والعطور المختلفة التي أثرت في حياتك. هذا الكتاب سيجعلك "تشم" أكثر. قرأته بالإنجليزية ولكن أصدقائي أعجبتهم الترجمة العربية
أعدت قراءة في عين الشمس لأهداف سويف. أحب هذه الرواية جداً واعترف أن لأهداف دور في اتجاهي للكتابة. سعدت لأني وجدت الرواية جميلة كما أتذكرها. أسلوب أهداف يستحضر الأشخاص والأماكن والمزاج أمامك فلا يكون بيدك حيلة إلا الاستغراق في هذا العالم. تعاطفت مع البطلة ولكن في كثير من الأحيان أردت أن اركلها لتفيق
قرأت افروديت لإيزابيل الليندي. تتكلم فيه إيزابيل بأسلوبها الآسر عن حب الطعام وطعام الحب. لا تبخل علينا إيزابيل بوصفات الطعام أو بالحكايات. كتاب يجعلك تريد أن تلتهم الطعام مع من تحب، أو تلتهم من تحب، أو تحب ما تلتهم. من الآخر...ستجد نفسك تمضغ الطعام ببطء وتحاول أن تستمتع بمذاقه لأطول وقت ممكن، وستجد نفسك لا تريد أن تفعل شيئاً سوى استيعاب ملامح من تحب لتتمتع بها لأطول وقت ممكن. وإذا كانت إحدى هواياتك تناول الطعام عامة والحلويات بشكل خاص فهذا الكتاب سيتسبب لك في خسارة مادية وامتلاء معوي والكثير من الأحاسيس "اللذيذة". ذكرني هذا الكتاب بآخر جميل جداً للورا اسكيفال اسمه مثل الماء للشوكولاتة وكتاب شوكولا لجوان هاريس
يعتبر يأكل ويضرب ويرحل (أو يأكل الأغصان وأوراق الشجر) من أمتع الكتب التي قرأتها عن علامات التنقيط. آه والله...كتاب بالكامل عن علامات التنقيط في اللغة الإنجليزية واستعمالها وتاريخها. تتمتع الكاتبة بحس فكاهي يجعل من الكتاب متعة لكل من ينزعج من الأخطاء الإملائية ويتمنى أن يجوب الشوارع بقلم أسود سميك ليصحح كل الأخطاء التي تؤذي العين والنفس اللغوية
وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة لملمت كل الأغطية حولي وقرأت سيدات ميسالونجي لكولين ماكوليج. قرأت هذا الكتاب ست مرات حتى الآن منذ أن أرسلته لي زوجة خالي عام 1994 من كندا. القصة تحثك على الحلم وعلى السعي وراء هذا الحلم بكل ما أوتيت من إصرار. اعتبر "ميسي" بطلة القصة من الأرواح الصديقة
وفي إجازة العيد الصغير قرأت شفرة دافينشي. داهمني الليل وأنا أقرأها في السيارة في طريق العودة من بورسعيد فما كان مني إلا إنني أخرجت مصباح كشاف صغير وأكملت قراءتها حتى أنهيتها. بين الوقت والآخر ينظر أبي للخلف ليعرف لماذا لا أغني معه فيراني منكبة على الكتاب فلا يعلق. لم أقرأ على ضوء الكشاف منذ أن كنت طفلة صغيرة عليها أن تنام لتستيقظ مبكرة للمدرسة ولكن لديها واجب مقدس تجاه الحودايت يتمثل في الانتهاء من قراءة قصة ما. الكتاب به معلومات غزيرة (بغض النظر عن صحتها من عدمه) وشيق جداً رغم أن به العديد من الثغرات في الحبكة. في بعض المشاهد تتوقف الأحداث ويسرد البطل شيئاً لمدة عشر صفحات مثلاً، كل ذلك وهناك شخص يصعد السلم بمسدس ليقتل البطل! وهناك أجزاء في القصة "هندية" بعض الشيء ولكن كل ذلك لم يحد من استمتاعي بها
أعدت قراءة الأمير الصغير بالإنجليزية هذه المرة. هل أنا بحاجة لأن أتحدث عن الأمير الصغير؟ لا أظن
بعد إلحاح من ابن خالتي اقترضت منه قصة الوصيفة لمارجريت آتوود وبعد مزيد من الإلحاح قرأتها. كنت دائماً أريد أن اقرأ لمارجريت بعد أن عرفت من ابنة خالي إنها كاتبتها المفضلة وبعد أن مدح أخي كثيراً في قصائدها. القصة تدور في المستقبل حيث تستشف الكاتبة من أحداث الحاضر سيناريو مرعب للمستقبل بأسلوب سرد ممتع للغاية. إذا قبلنا بعض الأوضاع الآن، ماذا سيكون الحال عليه بعد ربع قرن؟ (مش بيفكرنا بحاجة الكلام ده؟)و
قرأت قطار الصعيد ليوسف القعيد لأتمكن من حضور مناقشة لهذه الرواية معه، فأنا أكره أن اذهب لمثل هذه المناقشات بدون قراءة الكتاب أولاً. حتى الآن لا أعرف لماذا لم تعجبني القصة ولم تترك بي أي أثر أو رد فعل. عندما ذهبت للمناقشة استغربت جداً من آرائه التقليدية عن المرأة. لم أدون أي ملاحظات أثناء المناقشة. لم يقل شيئاً رسخ بذهني
لأن صديق لي يحب نورا أمين جداً بحثت عن كتبها ولم أجد سوى "طرقات محدبة" حينها. أسلوبها في بعض قصص هذه المجموعة القصصية جديد ومختلف. لم أفهم كل القصص ولكن تلك التي فهمتها عجبتني. تميل أحياناً نورا للحداثة المفرطة وأنا مخي على قدي
قرأت "وجوه نيويورك" لحسام فخر كملف على الكمبيوتر قبل طباعتها بفترة لذلك عندما صدرت في الصيف الماضي بدأتها ولم أعود إليها مرة أخرى إلا في الشتاء. كلما وجدت نفسي في موقف غريب مع أناس أغرب تتردد في ذهني جملة لحسام في إحدى قصصه: "أين ذلك المغناطيس الكامن في أعماقي الذي يجذب المجانين إِلَى ويرميني في طريقهم دوماً؟" أحببت القصص جداً (ولكني أحببتها أكثر عندما قرأتها سامية لي أول مرة من على الكمبيوتر. سامية أنا بس عاوزة أفكرك إنك لسه ما خلصتليش كونديرا!)و
من عاداتي السيئة في القراءة هي إنني إذا أحببت كاتباً أو كاتبة قرأت كل أعماله "ورا بعض". بحثت كثيراً عن أي شيء للطيفة الزيات فلم أجد حينها غير الشيخوخة وقصص أخرى. ثم حالفني الحظ (بعد نداء توجهت به لإحدى المجموعات البريدية الإلكترونية المهتمة بالثقافة أسأل فيه إذا كان لدى أحد أي شيء للطيفة الزيات) وتعرفت على صديقة جديدة ذات روح جميلة جداً أعارتني "الباب المفتوح" و"حملة تفتيش – أوراق شخصية". لن تستطيع أن تقرأ لطيفة الزيات بدون أن تشعر بالإنسانة وراء القصص. بعد صفحات قليلة عرفت أن لطيفة روح صديقة
وأخيراً تمكنت من قراءة ساحر الصحراء لباولو كويلو التي ترجمها بهاء طاهر. كنت قد قرأتها بالإنجليزية منذ عامين مثلاً ولكني كنت متشوقة لقراءة ترجمة بهاء طاهر. لن أتكلم عن هذه القصة كثيراً لأنه يبدو لي أن الجميع يحبونها ويتوحدون معها. في رأيي الشخصي فيرونيكا تقرر أن تموت هي من أحلى قصص كويلو وأكثرها نضجاً. الفكرة العامة لـ"ساحر الصحراء" جميلة ولكن الأسلوب بسيط أكثر من اللازم. في تصديره للقصة يقول بهاء طاهر إنها ترقى لمكانة "الأمير الصغير" والنبي ولكني أختلف بشدة معه في هذه النقطة. يعني...فكرة روح العالم والاستماع للقلب وكل ذلك أفكار جميلة، ولكن اعتراضي على تكراره للدرس في كل صفحة في القصة: روح العالم روح العالم روح العالم...لحد ما طلعت روح العالم (على رأي صديق لي). و
وأعدت قراءة أنا وجدتي وايليكو وايلاريون لنودار دومبادزة الصادرة عن دار رادوغا. هل قرأ أحد هذه القصة من قبل؟ وجدت أن أول مرة قرأتها كان عام 1995 ومازلت أضحك من قلبي في نفس المواقف وابكي عند نفس المواقف رغم أن هذه هي القراءة الخامسة لها!و
وبعد بداية العام بقليل تلقيت هدية جميلة جداً: أليس في بلاد العجائب وعبر المرآة...الطبعة المصورة! إذا لم تكن قد قرأت أليس حتى الآن...مستني إيه؟؟ قضيت وقتي ما بين قراءتها وتلوين الصور. جاهدت مع نفسي لأقرأ القصة بالترتيب وألا أقرأ أجزائي المفضلة أولاً. الكتاب يبدو أحلى بعد تلوينه
وفي معرض الكتاب وجدت أخيراً قميص وردي فارغ لنورا أمين وفهمت لماذا يحبها صديقي. أسلوب السرد وبنية القصة نفسها جديد (بالنسبة لي على الأقل). بعد أن انتهيت منها أحسست إنني بحاجة لأن ابدأها مرة أخرى لاستوعبها بشكل أفضل. في كتابات نورا هناك حزن وألم ورغبة في تخطي كل ذلك
وفي إحدى زياراتي لمكتبة ديوان وجدت مسرحية "اللعب في الدماغ" لخالد الصاوي مطبوعة ومرفقة بشريط مسجل للأغاني. شاهدت هذه المسرحية ثلاث مرات (منهم مرة كان وجهي متورماً تماماً بعد خلع جميع ضروس العقل) والرابعة كانت في الإسكندرية. يطلق عليها البعض تسمية "الكباريه السياسي" بقصد التقليل منها، ولكنها أعجبتني وأضحكتني جداً. كما أن الأغاني والعديد من الإفيهات دخلت في قاموس كلماتنا أنا وأصدقائي
وآخر ما قرأت قصة "قنطرة الذي كفر" لمحمد مصطفى مشرفة (شقيق العالم الكبير). لم أجد أي موقع لهذا الكتاب للأسف. القصة مكتوبة باللغة العامية المصرية (أول قصة اقرأها بالعامية. أعرف إن "لبن العصفور" ليوسف القعيد بالعامية أيضاً ولكني لم أقرأها بعد). تعتمد القصة في سردها على أسلوب تيار الوعي والتداعي الحر: فقصة تسلمك لقصة تسلمك لأخرى بدون أن يكون هناك ترابط بينهم وبدون أن ينقص ذلك من سحرهم. النهاية ضعيفة إلى حد ما (ومستعجلة) ولكن القصة ككل أعجبتني. جدير بالذكر أن في عرض "حلاوة الدنيا" الذي عرضته فرقة الورشة الشهر الماضي على مسرح الجمهورية كان هناك مشهد مأخوذ من هذه القصة
اعتراف: كتابتي لكل هذا هو هروب من كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد الذي يتأملني من فوق مكتبي وينتظرني بصبر يكاد أن ينفذ
بعد قراءة ثانية لما كتبت الآن أنا سعيدة لأنني لم اتجه للنقد الأدبي
سؤال يحيرني: لماذا أعدت قراءة العديد من كتبي المفضلة الفترة السابقة؟ هل افتقدت أشخاص بعينهم؟ أحاسيس معينة؟ حالة مزاجية معينة؟ أغلب القصص التي أعدت قراءتها مرتبطة عندي بالطفولة وأيام يسير فيها الوقت ببطء فاستمتع بالأشياء لوقت أطول، قصص ارتبطت عندي بوقت ما قبل الغروب والصباحات المبكرة الهادئة
"تعلق صديقة لي على نهمي في القراءة فتقول: "خليكي إنتي مع أصحابك الخياليين
Thursday, April 14, 2005
رحـيـل
سترحل. لأول مرة خلال الشهر الماضي تصدمها هذه الكلمة: سترحل. في خضم كل الترتيبات والتجهيزات، الحجز وتأكيد الحجز، التسوق وإعداد الحقائب…فقدت إحساسها بالرحيل. والآن أدركت حقيقة الوضع: سترحل. بالرغم من كونه أمراً متوقعاً إلا أن إدراكها له في هذه اللحظة فاجأها. إنها—فعلاً—سترحل.
تنظر حولها متفقدة المكان بدون أن ترى. تسقط عيناها على اللوحة التي صنعتها بنفسها والتي تحتل حائط بأكمله من غرفتها الصغيرة. تمتلئ اللوحة بالصور والقصاصات والأقوال المأثورة وتشكيلة متنوعة من الأشياء التافهة التي ارتبطت بالتفاصيل الحميمة لحياتها. كل ما هو بسيط ولكن رائع. تجذب انتباهها قصاصة من الورق: "يندفع المغفلون حيثما تخشى الملائكة أن تطأ المكان"*. تهز رأسها وتدمدم لنفسها: "أحسن من قراية الكف!" اعتادت منذ أن بدأت في تجميع هذه اللوحة على أن تختار كل يوم قول مأثور من القصاصات المتناثرة على اللوحة لتتأمل فيه طوال اليوم أو تأخذه كشعار لليوم حتى. واليوم...؟ هل يندفع المغفلون حقاً حيثما تخشى الملائكة أن تطأ المكان؟ وهي...؟ هل هي مندفعة في الاتجاه الخاطئ؟ أو—أسوأ—أهي مندفعة لأنها تخشى أن تطأ الطريق الصحيح؟ والأهم من كل ذلك: أمغفلة هي...أم ملاك مغضوب عليه؟
تبدأ في إعداد قائمة لترتيب الحقيبة لأن هذه المرة إذا نَست شيئاً لن تتمكن من العودة لاسترجاعه. تحاول أن تركز في القائمة لتأخذ عقلها بعيداً عن أفكار الوداع التي تطاردها ولتؤخر حزم الحقائب قدر الإمكان.
تفكر: حزم الحقائب...ويأخذ عقلها منحنى آخر. كيف ستحزم حقائبها؟ كيف يمكنها أن تلملم عمرها في حقيبة؟ ما الذي ستأخذه وما الذي ستتركه؟ ما المهم وما ليس ذو أهمية؟ ما الثقيل وما الخفيف؟ ما الذي يمكنها أن تأخذه وهي مطمئنة إلى إن النظر إليه لن يفطر قلبها وهي هناك؟ وما الذي يمكنها أن تتركه وهي مطمئنة إلى إن تذكره لن يفطر قلبها وهي هناك؟ وفي النهاية...ما الذي يعنيها فعلاً؟ هل عليها أن تحزم حقائبها استعداداً لفترة إقامة طويلة أم قصيرة؟ وكيف يمكنها أن تضع خطط طويلة الأجل وهي ليست متأكدة من مدى "طول" هذا الأجل؟ وهل الوطن هو فعلاً "وطن المحبوب"؟ الكثير والكثير من القرارات التي عليها أن تحسمها الليلة وكل ما ترغب فيه هو نزهة طويلة سيراً على الأقدام.
عندما رحلت في المرة السابقة أقامت حفلة وداع لنفسها. تصرف متوقع منها تماماً! ولكن هذه المرة تتمنى لو كان بإمكانها الاختفاء وحسب. وهذا شيء آخر ينبغي عليها التفكير فيه: بمن ستتصل؟ على من ستمر؟ وخلف ظهور من ستتسلل؟ الهروب الكبير. لآخر مرة. يا رب!
....
أغسطس 1997
أمسية خانقة الرطوبة كعادة أمسيات أغسطس.
تقابلنا كلنا في المكان الذي نسهر فيه دائماً. إنه حفل وداعي وعيد ميلاده. يا للقسوة. أصوات...ضحكات...حفيف ورق الهدايا المزعج...موسيقى صاخبة...وصمت مدوي في أذني. اقفز من مقعد لآخر، اضحك هنا، أالقي بتعليق هناك، وأتقافز بين المواضيع والأشخاص. أتحاشى لقاء عيني بأي شخص أو البقاء لوقت أكثر من اللازم بجوار أي شخص.
تنظر لي الصديقة ذات العيون الطيبة عن كثب وتمسك بيدي لتبقيني بجوارها: "إنتي مجنونة. إنتي عارفه إنك مجنونة. مش لازم تسافري. إزاي تعملي كده؟ إنتي ادامك كل حاجة..."
أقاطعها لأردد كلمات ديكنز مقلدة صوت عجوز حكيم: "...كان كل شيء أمامنا، كنا جميعاً متجهين مباشرة للجنة، كنا جميعاً متجهين مباشرة للاتجاه الآخر". **
"بطلي تهريج! كلميني هنا...أنا عارفه إن ماينفعش تغيري رأيك دلوقتي، لكن أنا محتاجه أفهم وإنتي بتجري بقالك شهر وبتلفي حوالين نفسك وبتتجنبيني. إديني سبب واحد مقنع".
اجلس في صمت.
"إنتي طول عمرك شخصية مقاتلة، لكن ليه دلوقتي أنا حاسة إنك سيبتي سلاحك؟"
يباغتني كلامها تماماً. لم أتخيل إن بصرها حاد لهذه الدرجة. انظر لها مصدومة، وبالتأكيد رأت الذعر في عيني لأنها احتضنت وجهي بين يديها وقالت: "أنا برضه عارفه إنك فكرتي في الخطوة دي كويس أوي، وإن—بطريقة مجنونة ولا منطقية وغبية جداً—إنتي عارفه إنتي بتعملي إيه". تبتسم وتقبلني وتترك يدي. اجلس بجوارها يملؤني بخواء رهيب ووهن مُعجز.
أخيراً الملم بقايا شجاعتي واذهب لأجلس بجواره. ابتسم ابتسامة كبيرة لا تصل إلى عيوني القلقة.
يقول: "ها؟"
"ها أنت..."
يبتسم. "ها...مسافرة؟"
"أيوه...وأنت وافقوا لك على الهجرة"
"أيوه...وإنتي مسافرة..."
"أنت عارف بقى، أنت دايماً تقول إنك بتقرا الكف لكن عمرك ما عملت كده. أظن مافيش وقت أحسن من دلوقتي علشان تشوف لي بختي! أنا أكيد محتاجة أعرف إيه اللي مستخبي لي هناك"
"أكيد...مافيش وقت أحسن من دلوقتي. هاتي إيدك وتعالي هنا في النور"
يمسك بيدي ويتفقد خطوطها عن كثب. يقشعر بدني.
"بردانة؟"
أقول "لا" بشفتي دون صوت، مدركة إن البرودة برودة الروح وليس الجسد.
"خط الحياة عندك طويل. وخط الحب بيتقاطع مع خط الحياة بدري في حياتك. لكن هتحصل لك حادثة. اممممم...حادثة هتأثر على خط الحب وخط الحياة في نفس الوقت. وشايف نقطتين: يمكن يكونوا ساعتين، يومين، أسبوعين، أو سنتين. مش عارف دول إيه".
على غير عادتي اضحك بصوتٍ عال محاولة إبقاء الهيستريا على مسافة آمنة. "يعني من الآخر كده أنت بتقول إني مفروض أبعد عن الحب علشان أعيش حياة طويلة وأنا بصحتي وعلشان أتفادى أي حوادث غير مرغوب فيها؟ حضرتك بتقول إني هاحب فعلاً، زي ما حلمت طول عمري، لكني هاقضي باقي حياتي "القصيرة" أرملة مكسحة كسيرة الفؤاد؟ ده ماكانش تصوري عن حياتي خالص!"
يثبت عيناه في عيني ولا يدعني انظر بعيداً: "لأ...اللي بأقوله إنك لو حبيتي لازم تبقي مستعدة إنك تدي حياتك فدا الحب ده".
ننظر لبعض في صمت للحظة ثم اسحب يدي من يده في ارتباك وأقول: "أنا مبسوطة إنك ما اخدتش قراية الكف كمصدر أكل عيش...كان زمانك مقضّي معظم وقتك بين السجون وعنابر الكسور في المستشفيات!" أبرز له لساني لأغيظه وأغمز بعيني. يضحك بلا مرح. أقوم من جواره واحلق بعيداً.
نبدأ مراسم احتفالنا بعيد ميلاده ثم "الاحتفال" بسفري. الجو العام كوميدي جداً وشلة الأصدقاء مصممون على إنني لن أصمد هناك أكثر من شهر واحد. يهددونني بالقدوم إلى المطار لتوديعي مصطحبين مجموعة كبيرة من القلل ليكسروها بعد إقلاع طائرتي. اضحك بشدة وأقول: "ومين قال إني هأقول لكم على ميعاد سفري؟!" تُفزعه هذه الفكرة وينظر لي بتفحص، يحاول أن يكتشف أين تنتهي المزحة وتبدأ الحقيقة. تفشل محاولته وأرى يأسه يبدأ في الظهور على السطح.
يسأل بهدوء: "راجعه امتى؟"
"امممم...بعد اتنين..."
"اتنين إيه؟!"
"ساعتين...يومين...أسبوعين—"
"ماشي ماشي...خلاص...كنت باهرج معاكي على النقطتين دول! محدش يعرف يهرج معاكي أبداً؟! ده إنتي قلبك أسود بشكل!"
اضحك ثم أقول بهدوء: "وأنت راجع امتى؟"
"معنديش أي فكرة..."
"هنفضل على اتصال؟"
"ما أظنش. على بال ما استقر هناك، وعلى بال ما تستقري إنتي هناك، هيبقى مافيش معنى إننا نكون على اتصال أصلاً".
أخيراً جاء وقت الرحيل: مصافحات، أحضان، قبلات، ثم ألوح للجميع وانحني في حركة وداع مسرحية ثم بصوت عال يجاهد ليظل مرحاً أقول: "أشوفكم بكره يا كتاكيت!"
يمشي معي حتى الباب. نقف عند المدخل في صمت. يمد يده فآخذها.
يقول: "هابقى أشوفِك لما أشوفِك بقى".
"هاشوفك لما أشوفك، لكن أنا عارفه إنه هيبقى مش بعد وقت طويل زي ما أنت متخيل".
أغمز بعيني، يبتسم، ابتسم وأدير له ظهري وامشي بثبات. استقل طائرتي في صباح اليوم التالي بلا خوف.
.......
واليوم؟ كيف سيكون الوداع؟ لقد حرصت على ألا تبوح لأحد بموعد رحلتها الحقيقي. قررت أنها ستتصل بهم من المطار لتقول إنها كانت على قائمة الانتظار وأن حجزها قد تم تأكيده في آخر لحظة. تعرف أن ذلك سيكون تصرفاً قاسياً منها ولكنها تعرف أيضاً أنها ليست شجاعة كما كانت من قبل. كما تعرف أن هذه المرة "هتشوفهم لما هتشوفهم" لكن ليس قريباً كما يظنون. ولكنها معذورة: عليها أن تعتني بنفسها وهي تعرف أنها لن تقدر على الوداع هذه المرة. لم تعد صغيرة وبالتالي أصبحت تخاف الكثير من الأشياء.
تلعن عقلها لأنه لا يتوقف عن الانسياق هنا وهناك حسبما تأخذه أفكارها. تُجبر نفسها على التركيز ولكنها تعرف أن كل محاولاتها للتفكير المنطقي الليلة ستبوء بالفشل فعقلها يدبر انقلاب. ليس هناك أحد يُلام على هذا سواها: فلقد دربت عقلها دوماً على ألا يطيعها.
كلما حاولت أن تجهز حقيبتها كلما ازداد الأمر صعوبة: كل قصاصة ورقية، كل صورة، كل شيء على منضدتها أو مكتبها، كل شيء في دولابها...كل شيء...كل كل شيء يذكرها بأشياء أخرى ويفتح عليها أبواب تأخذها في دهاليز تعود منها أكثر ضياعاً. تقضي وقتاً أطول مما تخيلت في الترتيب، تتوقف عند هذا وذاك لتتذكر قصة أو ضحكة أو دمعة وراء كل شيء تختار أن تأخذه أو تتركه. والقصة تأخذها لأخرى...ثم لأخرى...وأخرى...تدور وتدور وتدور...طواحين عقلها قد أصابها الجنون. تقرر أن تترك ألبومات الصور. لا داع لأخذهم هذه المرة فهي لن تنظر فيهم. أبداً.
تتصل بسائق الأجرة الذي تتعامل معه ليأخذها للمطار، وتنادي على حارس البناية ليأخذ حقائبها. تترك كل شيء على حاله. ستأتي أختها غداً لتنظف المكان وتغلق الشقة. أرادت أختها أن تقوم بذلك ولم تقاوم هي. لم ترغب في أن تغلق النوافذ وتطفئ الأنوار. تنزل الدرج فتفاجأ بصديقتها ذات العيون الطيبة (الآن محجبة ومتزوجة وتنتظر مولودها الأول) في انتظارها عند مدخل البناية.
"أنا كنت عارفه إنك هتعملي حاجة زي كده. إزاي؟! إزاي يجيلك قلب تعملي كده؟!"
"يا خبر! والنبي ماتزعلي! أنا ماكانش قصدي امشي كده...عشان خاطري ما تزعلي...كل حاجة حصلت فجأة!"
"يا خاينة!"
تتركها صديقتها وتعود لسيارتها تبحث بداخلها عن شيء ثم تعود لها بمظروف كبير.
"أنا جبتلك دي. اتصرفي بقى...شوفي لها مكان في شنطك. مش مشكلتي إنك قررتي تهربي كده!"
تفتح المظروف لتجد لوحة صغيرة لعصفور ناصع البياض يطير بحرية خارج قفصه في سماء زرقاء رائعة. العصفور يبدو سعيداً وهادئ البال، القفص يبدو صغيراً ولكن قوياً، والسماء تعد بالكثير.
"دي...دي...يعني...مش عارفه أقول إيه...دي جميلة أوي! ده رسمك إنتي؟!"
"لأ يا بطيخة. أجّرت رسام متنكر وخليته يرسمك من غير ما تاخدي بالك! طبعاً أنا اللي رسمتها! مين تاني عارفك كويس زيي كده؟" تبتسم وتمتلئ عينيها حناناً.
تسأل بجدية وحزم: "مين أكتر واحدة صاحبتك في الدنيا دي؟"
"إنتي".
"ومين اللي هتكون دايماً موجودة وقت ما تحتاجيها؟"
"إنتي".
"ومين يا هانم اللي هتوصلك المطار دلوقتي لأنها طلعت أذكى منك بمراحل وفقساكي؟ مين؟!"
تضحك وتضحك وهي تحاول ألا تبلل دموعها اللوحة: "إنتي!"
"كان نفسي تكوني موجودة لما أولد. كنت عاوزاكي تبقى أول حاجة ابني يفتح عينيه عليها".
"ما تخافيش يا حياتي، أنا قريت إن الأطفال مش بيفتكروا أي حاجة عن حياتهم قبل سن تلات سنين، وأوعدك إني هاكون هنا قبل ما يبقى عنده ذاكرة أصلاً".
تضحك وتهز رأسها: "أنا عارفه إن لسه عندك وقت على ميعاد الطيارة. تعالي نتمشى شوية". لا تجادلها. تأخذ يدها وتسيران.
تسألها صديقتها: "إنتي عارفه يعني إيه وطن؟"
"ما أظنش إني بقيت عارفه إجابة السؤال ده خلاص".
بطيخة...كالعادة...هتعيشي وتموتي بطيخة! الوطن يا حياتي هو المكان اللي لما ترجعي له هيرحبوا بيكي وياخدوكي وسطهم غصب عن عينهم. إنتي عارفه كده مش كده؟ عارفه إن إحنا دايماً هناخدك وسطنا في أي وقت ترجعي فيه؟"
"بطريقة مجنونة ولا منطقية وغبية جداً...أنا عارفه ده".
في طريقهم إلى المطار والمناظر تتسارع أمامها تفكر: "إن...يمكن...يمكن أنا مش شجاعة زي ما كنت... يمكن أنا بقيت أشجع. ويمكن...احتمال يعني...إني مش مندفعة ولكني ماشية بشويش أوي في الاتجاه الصح. ومعايا الدليل مرسوم في لوحة وكله حب.
..........................
*من قصيدة "مقال عن النقد" للشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب
** من رواية "قصة مدينتين" لـتشارلز ديكنز
Saturday, March 19, 2005
حنين
لن تصدق ما الذي فعلته الطفلة اليوم: أتت برزنامة حائط كبيرة، وحسبت الأيام منذ آخر مرة رأتك، وعندما وجدت أنها لا تستطيع العد بعد المئتين رمت القلم الأحمر الشمعي الصغير من يدها وزفرت بغيظ وصرخت: "يوووووووووه!! يووووه بقى!!!" وركلت الرزنامة والقلم، ووقفت في وسط الحجرة وأخذت تقفز وتدب بقدميها على الأرض في حنق وهي تهتف بأعلى صوت: "وحشتني بقى!!! بقى!! وحـشـتـنـييييييييييي!!!" قبل أن ترتمي في حضني باكية.
تطلب الأمر مني حدوتة عنك، وقطعة شوكولاتة بالبندق، ونزهة سيراً على الأقدام حتى محل البراويز لنعطيه صورتك ليضعها في برواز خشبي، ذو لون عسلي دافئ يلائم لون عينيك، لتضعها بجوار سريرها كمبادرة صلح مؤقتة. هي الآن نائمة تعلو وجهها ابتسامة صغيرة، بينما أطوف أنا في المنزل على أطراف أصابعي، أمزق كل الرزنامات وأعيد الساعات إلى ما قبل المئتي ليلة وليلة.
Friday, March 18, 2005
طق حنك
تقول إنه إذا وجدت نفسي غاضبة أو حزينة فجأة فلابد أن شيئاً صغيراً قد حدث ضايقني أو أحزنني، ولكنني لم أنتبه له في حينه. قررت أن اراجع ما حدث في الأيام الماضية لأعرف ما هو الشيء الصغير الذي ضايقني وجعل ضيقي يتراكم حتى أكاد الآن أن انفجر.
يوم الخميس بدأ جميلاً جداً. بعد أمطار غزيرة أشرقت السماء، وبدا كل شئ منيراً من الداخل. حتى أنا...كنت منيرة من الداخل، فلقد صَحِبتني إلى عملي. في المكتب أنجزت الكثير وخرجنا جميعاً للغداء سوياً، الفريق الإبداعي المكون من أربعة عشر شخصاً. مطعم على الطراز المصري سمعت عنه كثيراً ولكن أدخله لأول مرة. التقطت لك بعض الصور. جلست على أريكة على رأس الطاولة الكبيرة، واندسست بين الجالسين، وخلعت حذائي وثنيت رجلي اليسري تحت مني، وأخذت في الكلام والضحك والتعليق. أحب زملائي في الفريق، واستغرب من الطريقة التي تأقلموا بها علىّ في الشهور القليلة الماضية، فلم يعد يزعجهم كلامي المتواصل، أو غنائي بصوت عالٍ، أو تعليقاتي وضحكي وجنوني وحتى رقصي أحياناً. رغم أنني لست أصغرهم (هناك ثلاثة أصغر مني في الفريق) ولكنهم يتعاملون معي على أني الصغيرة التي يأخذونها على قدر عقلها. لا أمانع. في الواقع استمتع بحقيقة إنني أحبهم ولكني لست مرتبطة بهم. أعرف في قرارة نفسي أنه يمكنني في أي وقت أن ألخص تجربة هذه الوظيفة، وأجمع أشيائي المتناثرة على المكتب وفي الأدراج، وأعود للعمل من المنزل بدون حزن كبير أو أسف عميق. لقد تجاوزت كل ذلك بعد أن تركت أول وظيفة أحببتها. حينها بكيت حتى لم أعد أقو على فتح عيوني ولزمت الفراش. حتى الآن أذهب أحياناً لزيارتهم ولكن بدون حنين أو مرارة أو أسف. أشعر أنني أزور مدرستي القديمة، وأعرف أنني تجاوزت مرحلة المدرسة.
الأكل جميل، وعلى الرغم من أن الطبق الذي اخترته لم يعجبني، فلقد جربت كل أطباق زملائي. يُطلق علىّ أخي وابن خالتي لقب "رحاب هات حتة"، لأني أحب دائماً أن أجرب أطباق الآخرين. كل شيء مريح ومرح وهادئ. أشعر برغبة في النوم وسط رقرقة الضحكات والكلمات المتناثرة هنا وهناك. تنجدني القهوة وتعطيني نَفَس ثان. وفجأة يقول مديري إنه سيجلس معي يوم الأحد ليناقشني جدياً في العديد من المواضيع لأنه غير راضٍ عن عملي. أتوتر. هذه هي اللحظة التي بدأ فيها الغضب.
بعد الغداء والمشروبات بدأ الناس في الانصراف. بقينا أنا ومها وزميلتين لنتكلم، وقلت إنه إذا لامني المدير على هذا وذاك سأغضب فعلاً. تكلمنا حتى أذن المغرب فعدنا أنا ومها إلى منزلي لنغير ملابسنا ونرتدي الأسود. لدينا واجب عزاء. توفى خال صديقنا.
ونحن في الطريق أقرر فجأة أن أقول لمها على كل ما يوترني، وأرتاح عندما أجدها تفهم ما أريد أن أقوله بدون أن أقوله كله. نذهب لدار المناسبات وننتظر سامية وعمرو أمام المسجد. عندما يحضران يخرج خالد من قاعة العزاء ليسلم علينا. لا أستطيع أن أرسم على وجهي الحزن أو الأسف. لم أر خالد منذ فترة، فأبتسم ابتسامة واسعة وأصافحه بحرارة. تعتذر سامية لأنها تلبس البني، وأقول إنني ألبس كنزة أعارتني إياها مها لأني لا أملك شيء أسود دافئ، وتقول مها إنها ستتجمد لأن القميص الأسود الذي ترتديه قميص صيفي. يضحك خالد. أشعر برغبة شديدة في أن أحتضننا جميعاً حضن "تفعيص" لأني أحبهم جداً وأحب كيف نكون سوياً. أفتقد سارة وأسامة أكثر لأنهما لم يستطيعا الحضور. نتكلم قليلاً ثم يعود هو وعمرو لقاعة الرجال، ونذهب نحن لقاعة السيدات. أقول لسامية ومها إنني أعرف والدة خالد. ندخل فأجد أنني لا أستطيع تمييزها. ندخل فلا نسلم على أحد ونجلس في إحراج.
تقول مها: "شكلنا وحش موت! دخلنا كده وماسلمناش على حد!"
تقول سامية: "الست اللي قاعدة جنب الباب دي شكلها هي اللي بتاخد العزا. تعالوا نقوم نسلم عليها".
أقول: "لأ استنوا نسلم على مامت خالد".
نجلس في حيرة.
تقول سامية: "طب نسأل مين مامت خالد؟"
أقول: "طب اسألي اللي جنبك..."
تقول مها: "افرضي قالت لك خالد مين!"
تقول سامية: "طب إنتي عارفة اسم مامت خالد؟"
أقول: "لأ مش عارفه! هعرف اسم مامته ليه؟! بصوا هي يمكن دي أو دي".
نعاين السيدتين. كلتاهما تشبهان خالد!
تقول سامية: "قومي إنتي يا رحاب اسألي. هزي طولك كده!"
أقول باستغراب: "إشمعنى أنا اللي أهز طولي؟!"
تقرر سامية: "علشان إنتي قصيرة ولو هزيتي طولك محدش هياخد باله".
أدير عيني في محجريهما وأمط شفتي في ابتسامة مغتاظة. أنظر حولي مرة أخيرة أحاول أن أجد والدة خالد بلا جدوى. أقوم فأسأل عنها السيدة التي تجلس بجوار الباب فتأخذني لإحدى السيدتين التي كنا نشك فيهما. أسلم عليها وتأتي سامية ومها، وتقول والدته لسامية: "أنا كنت باشبه عليكي من ساعت ما دخلتي بس قلت إيه اللي جابك! قصدي يعني عرفتي منين!" نضحك وتضحك وتقول "خلوا بالكو من خالد بس" فأقول إننا دائماً "مخليين بالنا منه".
نعود إلى مقاعدنا. أدرك فجأة أنني أرتدي نفس الجاكت والبنطلون الذين ارتديتهم طوال أيام العزاء بعد أن توفى عاطف زوج ابنة عمتي. أسمع مريم ذات الخمس سنوات وهي تقول باستنكار شديد: "إنتي لابسة نفس اللبس تاني؟!"، وأسمع فريدة ابنة عاطف ذات الخمس سنوات أيضاً وهي تقول: "إنتي كمان؟؟ إنتي كمان لابسة أسود؟"، وأشعر برغبة في الخروج فوراً وشراء أي شيء أحمر...أي شيء فيه حياة. هذه هي اللحظة التي بدأ فيها الحزن.
مها تجلس في الوسط. بوجه جاد جداً أميل على مها لأقول لسامية: "عاوزة وصفة الشوربة". تفغر سامية فاها وتبرق عينيها، وتطرق مها وتأخذ في الضحك مختبئة في شعرها الطويل، وتفرك سامية جبينها ويحمر وجهها وهي تحاول جاهدة ألا تضحك بصوت عالٍ.
"أنا باتكلم بجد. عاوزة وصفة الشوربة. بتضحكوا على إيه؟ هأنسى...لما أخرج من هنا هأنسى".
تهزان رأسيهما في أسف لحالتي وتقرر مها أنني مصيبة وفضيحة.
يقول المقرئ "صدق الله العظيم" فنسلم على والدة خالد مرة أخرى ونخرج. نقف قليلاً معه ونستفهم منه كيف توفى خاله، ونسأله إذا كان يرغب في أن يذهب معنا لاحتساء القهوة في أي مكان قريب فيعتذر ونمضي.
نتجه للكوربة. ألاحظ أن العديد من عمارات شارع بغداد قد أُعيد طلاؤها. ينعكس عليها النور من مصابيح الشارع فتبدو منيرة جداً. أشعر أنني في فيلم قديم أو صورة سيبيا. أمشي بتمهل وتغني مها ويسبقنا سامية وعمرو. أريد أن أسير قليلاً في الكوربة ولكن لا أريد أن أكون وحدي ولا أريد أن أكون معهم. على أي حال أكره الكوربة وهي مزدحمة هكذا ليلة الخميس. قضينا وقت ظريف في لو شانتي، تكلموا هم وضحكنا كثيراً. كان من الممكن أن أستمتع بالأمسية لو كنت فقط استطعت أن أزيح جانباً هذا الحزن الذي بدأ يتحكم في. خرجنا من المطعم ووقفنا أمام بعض المحلات. دخلوا محلاً للأثاث وتبعتهم. ثم أحسست بضيق نفس فخرجت في الشارع. وقفت قليلاً ثم تذكرت أن الكوربة مشهورة بأنها مكان لالتقاط الفتيات، فرجعت إلى الوراء ووقفت بجوار الرصيف أنظر ولا أرى. يجب أن أذهب لزيارة ابنة عمتي. لا يمكنني تفاديهم للأبد. دي تصرفات عيال. لازم أكبر بقى. بس مش قادرة. مش قادرة أدخل البيت. مش قادرة حتى أكلمها في التليفون وأسمع رنة الحزن المستسلم في صوتها.
لا يمر يوم لا أفكر فيه في عاطف، فعلى الطريق الدائري الذي أسلكه للعمل كل يوم غالباً ما يكون هناك رادار ولجنة. آخر مرة الصيف الماضي عندما سحبوا رخصتي وحرروا لي مخالفة سرعة على الدائري كان عاطف هو الذي أعاد لي الرخصة. وعند عودتي من الإسكندرية الأسبوع الماضي سحبوا رخصة قيادتي عند مدخل الإسكندرية، وسحبوا رخصة السيارة في وسط الطريق. تملكني حزن هائل مؤلم. شعرت أنني أريد أن أجلس على جانب الطريق، أهيل التراب على وجهي وأبكي بحرقة. فكرت أن أحاول أن اشرح للضابط: "شوف حضرتك...ماينفعش تسحب الرخصة...عاطف مات...ودلوقتي مين هيجيبهالي؟ بجد ماينفعش...أنا مش هأعمل كده تاني بس من فضلك ماتسحبهاش".
تخرج مها من محل الأثاث ويتبعها سامية وعمرو. أريد أن أركض بأقصى سرعة أو أنام لبضعة أيام. أدفع يدي في جيوبي أكثر وأسير في صمت. نسلم على بعض ونفترق وأعود للمنزل. لا أتذكر كيف مضى الوقت حتى نمت. قرأت قليلاً في "قميص وردي فارغ" لنورا أمين وأبتسمت عندما وجدتها تشكو من ارتداء الأسود والذهب والكعب العالي، وتذكرت شكوى لطيفة الزيات من الكورسيه. معضلة المرأة الحديثة. لماذا لا يتحدث أحد عن الجوارب "الفيليه" الشفافة؟ ربما علىّ أن أذكرها في القصة القادمة.
ويوم الجمعة استيقظت مبكرة. حلمت حلم مقبض للغاية. حلمت أنني في لبنان، أجلس في سيارة ويسألني عسكري عن اسمي، ومن اسمي يعرف ديانتي فيصوب مسدسه لرأسي ويضغط الزناد، وأن آخر شئ قلته لنفسي هو: "لا تقلقي"، ثم همست بالشهادتين وأظلمت الدنيا. أعرف أن هذا مشهد من فيلم تسجيلي عن لبنان وفيروز اسمه "أحببنا بعضنا جداً" شاهدته في مهرجان الفيلم الأوروبي منذ بضعة أشهر. ولكن في المشهد تحكي السيدة أنهم قتلوا أخيها وهي بجواره في السيارة. وبعد أن انتهت من حكايتها تحول المشهد إلى لقطات للبنان أثناء الحرب وفي الخلفية أغنية فيروز "صباح ومسا"، وأخذت أنا في البكاء حتى نهاية الفيلم، وأخرجت مناديل ورقية تقاسمتها مع المرأة الجالسة بجواري التي لا أعرفها. عندما استيقظت من الحلم شعرت بالإشفاق على نفسي لأن آخر شئ قلته هو "لا تقلقي". أسيكون هذا هو فعلاً آخر ما أفكر فيه؟ ارتحت إلى حد ما لأني استطعت أن أقول الشهادتين. اختلفت الأراء حول الدين والله، ولكني أحب الله جداً وأعرف أنه يحبني جداً، لذلك لا أهتم بأغلب هذه الآراء.
ساعدت أمي في ترجمة مقالة. أحاول أن أقاوم تعب عميق يسكن جسمي. كل شئ يؤلم. تمددت أقرأ في السرير لساعتين حتى نمت مرة أخرى. انتهيت من القميص الوردي وبدأت "الباب المفتوح" للطيفة الزيات. استيقظت في الخامسة لأجد أن كل الناس اتصلت بي. رددت على مكالمة واحدة وأجلت الباقي لبعد قيامي من السرير. أعود للقراءة. منذ فترة لم تستغرقني رواية هكذا. أريد أن أكتب ولكني متعبة للغاية. تقول أم البطلة في "الباب المفتوح" إن "جسمها مهزوم" فأجد إن هذا أفضل وصف لحالتي. أدركت أنني نسيت أن أكتب شيئاً في قصة "أنا والضباب وهواك"، وأخذت أفكر في جدوى إضافة بضعة سطور للقصة.
يقترح سامية وعمرو السينما، وتقترح مها مسرحية في الهناجر، وأعتذر عن القيام من السرير. يمر اليوم في القراءة وتفادي الاتصالات. لا أستطيع النوم قبل أن انتهي من "الباب المفتوح".
والسبت استيقظت في السادسة صباحاً فجأة، لأجد صديق لنا في الخارج لم يتصل بي منذ أن سافر قد اتصل بي في الرابعة صباحاً...من البلاد الباردة! تتسارع ضربات قلبي، ويبرد جسمي كله في لحظة، وأفكر في كل الاحتمالات المرعبة. أقوم لأتفقد البريد الإلكتروني. لا شيء. أرسل له رسالة. لا يرد. أعود لنوم قلق. من المفروض أن أذهب لزيارة صحراء المماليك اليوم ولكني متعبة. قررت أن أنام حتى ولو كان نوم قلق. تفتح أمي باب غرفتي وتترك كفته على السرير لأنها لا تستطيع أن تقوم بأي شيء في المنزل لأنه يجري حولها في كل مكان. نعود أنا وكفته للنوم. أستيقظ وأبدأ في القراءة. تفتح أمي الباب: "أنا عارفه إنك مستمتعة بالقراية وكل حاجة، بس ممكن تنشري الغسيل وأي كلام أي كلام أي كلام". أتوقف عن السمع. هذه هي اللحظة التي بدأ فيها الغيظ.
اليوم هو الثاني عشر من مارس. ستة شهور ويوم. أزفر زفرة طويلة. مرت منهم أربعة شهور وأنا أكتب وأكتب.
أحاول أن أخطط لليوم: سأذهب لمصفف الشعر، ثم أشتري رمل للقط، وربما أصلحت الساعة، أو سأذهب لأمشي في حديقة الأزهر، أو سأذهب للمقهى الذي أحبه وأكتب، أو سأذاكر، ربما أقرأ قليلاً. من المؤسف أن يكون أمامي يوم طويل هكذا لنفسي ولا أفعل فيه شيء مفيد.
أماطل. لا أريد أن أقوم من السرير. يؤلمني فكي بشدة. كنت أجز على ضروسي طوال الليل. في مثل هذا الوقت العام الماضي خلعت كل ضروس العقل. أبتسم وأنا أتذكر سامية وهي تقرصني في ذراعي وتصيح في أذني: "اصحي يا رحاب! اصحي يا رحاب!! يا رحاب اصحي بقى!!"، وأمي وخالتي وهما تستدرجانني في الكلام وأنا تحت تأثير المخدر: "ها وبعدين؟"
أقوم وأنا أغالب الصداع. أريد قهوتي حالاً. أتذكر أنني كتبت جزء من سميرة أثناء النوم. أحاول أن استرجعه ولكن أفشل. أغتاظ. أركز أكثر. أتذكره! في المطبخ أجد القهوة التي أحبها قد نفدت. أغتاظ. أفتح عبوة زبادي، أجد طعمها في غاية المرارة، أغتاظ. طلبت من البقال ألا يرسل هذا النوع ولكنه أرسله. أقرر أن أستحم. أدخل الحمام وأخلع ملابسي، لا أجد صابون، أغتاظ. ألف المنشفة حولي وأخرج لأحضر الصابون، أدخل، أنزع المنشفة، لا أجد كريم الشعر، أغتاظ. ألف المنشفة حولي وأخرج مرة أخرى. أبحث عنه في كل مكان. يبدأ صوتي في الارتفاع. لا أجده. أغتاظ. أدخل الحمام وأبدأ في الاستحمام. اللوفة طرية! أكره ذلك! أكره اللوف الطري! مقرف مقرف مقرف! كيف يتمكن أحد من الاستحمام بلوفة طرية؟! أبدأ في البكاء تحت الدوش. لماذا يتآمر الجميع على حرق أعصابي؟
أخرج من الحمام، وأرتدي ملابسي، وأجلس في غرفة المعيشة أمام التلفاز المغلق. أقرر أن أجلس لمدة خمس دقائق دون حراك لأمشط شعري في صمت وهدوء. أرفع رأسي فأرى كتاب يحملق في من على أحد الرفوف: "علاج التقلبات المزاجية". أغتاظ: أنا لا أعاني من تقلبات مزاجية! أنا ضحية لتصرفات من حولي! اقرر أن أفكر في شيء مبهج. أنظر من النافذة فأرى سحابة صغيرة ممتلئة تطفو بتمهل. أبتسم. أمنية حياتي أن أجلس على سحابة، سحابة وردية كغزل البنات. عبرت عن هذه الأمنية مرة أمام شخص ما فقال إنه من المؤكد أنني سأسقط، فلا أحد يمكنه الجلوس على السحاب. ذكرني بمستر جرادجرايند في قصة تشارلز ديكنز "أوقات عصيبة" وهو يصرخ في التلاميذ الصغار ويقول: "الحقائق! الحقائق! التزموا بالحقائق!". كم كرهت مستر جرادجرايند وكرهت ذلك الشخص.
لا أدري لماذا درسوا لنا تقريباً كل قصص تشارلز ديكنز في المدرسة. هل كانوا يريدون لنا أن نفهم "بالذوق" أننا أفضل من غيرنا؟ إننا مهما كانت طفولتنا تعيسة فنحن أفضل من دافيد كوبرفيلد الذي توفى والداه وتحكم فيه الجميع واضطر أن يتعامل مع شخص لزج "متواضع" ذو يد باردة وابتسامة صفراء مثل يوريا هيب، أو أفضل من أوليفر تويست (اليتيم أيضاً) الذي استغله المجرمون، أو أفضل من بيب (يتيم آخر) الذي تلاعبت بعواطفه ستلا ومسز هافيشام المتعفنة. ناهيك عن سيدني كارتون الذي أبكي كلما شاهدته في فيلم "قصة مدينتين" وهو يساق إلى المقصلة بدلاً من الآخر الذي لا أتذكر اسمه. لماذا فرضوا علينا كل هذه المآسي؟! لم أصدق نفسي عندما وجدت أن مقرر الرواية في عامي الثاني بالكلية يشمل "أوليفر تويست"! تاني؟! أوليفر تاني؟! من كل أمهات الأدب الإنجليزي لم يجدوا غير أوليفر؟! أغتاظ وأنا أتذكر ذلك فأتوقف عن تمشيط شعري وأقوم قبل مرور الخمس دقائق. والله العظيم لا أنا نازلة وقاصة شعري! أحاول دائماً أن أنكر أي علاقة بين قصي لشعري وتقلباتي المزاجية، ولكني أعرف نفسي أفضل من ذلك. تقول هلا: "قصي شعرك تغيري حظك". جربت ذلك أيضاً. لم ينفع.
ماذا أفعل بنفسي الآن؟ أنا مغتاظة وغاضبة وحزينة. وكل شيء يؤلم...كل شيء.
أعود للسرير وأدفن رأسي بين الأغطية استعداداً لماراثون نوم جديد. آه يا براح عمال بيضيق!