Thursday, April 14, 2005

رحـيـل




سترحل. لأول مرة خلال الشهر الماضي تصدمها هذه الكلمة: سترحل. في خضم كل الترتيبات والتجهيزات، الحجز وتأكيد الحجز، التسوق وإعداد الحقائب…فقدت إحساسها بالرحيل. والآن أدركت حقيقة الوضع: سترحل. بالرغم من كونه أمراً متوقعاً إلا أن إدراكها له في هذه اللحظة فاجأها. إنها—فعلاً—سترحل. ‏

تنظر حولها متفقدة المكان بدون أن ترى. تسقط عيناها على اللوحة التي صنعتها بنفسها والتي تحتل حائط بأكمله من غرفتها الصغيرة. تمتلئ اللوحة بالصور والقصاصات والأقوال المأثورة وتشكيلة متنوعة من الأشياء التافهة التي ارتبطت بالتفاصيل الحميمة لحياتها. كل ما هو بسيط ولكن رائع. تجذب انتباهها قصاصة من الورق: "يندفع المغفلون حيثما تخشى الملائكة أن تطأ المكان"*. تهز رأسها وتدمدم لنفسها: "أحسن من قراية الكف!" اعتادت منذ أن بدأت في تجميع هذه اللوحة على أن تختار كل يوم قول مأثور من القصاصات المتناثرة على اللوحة لتتأمل فيه طوال اليوم أو تأخذه كشعار لليوم حتى. واليوم...؟ هل يندفع المغفلون حقاً حيثما تخشى الملائكة أن تطأ المكان؟ وهي...؟ هل هي مندفعة في الاتجاه الخاطئ؟ أو—أسوأ—أهي مندفعة لأنها تخشى أن تطأ الطريق الصحيح؟ والأهم من كل ذلك: أمغفلة هي...أم ملاك مغضوب عليه؟‏

تبدأ في إعداد قائمة لترتيب الحقيبة لأن هذه المرة إذا نَست شيئاً لن تتمكن من العودة لاسترجاعه. تحاول أن تركز في القائمة لتأخذ عقلها بعيداً عن أفكار الوداع التي تطاردها ولتؤخر حزم الحقائب قدر الإمكان. ‏

تفكر: حزم الحقائب...ويأخذ عقلها منحنى آخر. كيف ستحزم حقائبها؟ كيف يمكنها أن تلملم عمرها في حقيبة؟ ما الذي ستأخذه وما الذي ستتركه؟ ما المهم وما ليس ذو أهمية؟ ما الثقيل وما الخفيف؟ ما الذي يمكنها أن تأخذه وهي مطمئنة إلى إن النظر إليه لن يفطر قلبها وهي هناك؟ وما الذي يمكنها أن تتركه وهي مطمئنة إلى إن تذكره لن يفطر قلبها وهي هناك؟ وفي النهاية...ما الذي يعنيها فعلاً؟ هل عليها أن تحزم حقائبها استعداداً لفترة إقامة طويلة أم قصيرة؟ وكيف يمكنها أن تضع خطط طويلة الأجل وهي ليست متأكدة من مدى "طول" هذا الأجل؟ وهل الوطن هو فعلاً "وطن المحبوب"؟ الكثير والكثير من القرارات التي عليها أن تحسمها الليلة وكل ما ترغب فيه هو نزهة طويلة سيراً على الأقدام. ‏

عندما رحلت في المرة السابقة أقامت حفلة وداع لنفسها. تصرف متوقع منها تماماً! ولكن هذه المرة تتمنى لو كان بإمكانها الاختفاء وحسب. وهذا شيء آخر ينبغي عليها التفكير فيه: بمن ستتصل؟ على من ستمر؟ وخلف ظهور من ستتسلل؟ الهروب الكبير. لآخر مرة. يا رب!‏

....

أغسطس 1997

أمسية خانقة الرطوبة كعادة أمسيات أغسطس.‏

تقابلنا كلنا في المكان الذي نسهر فيه دائماً. إنه حفل وداعي وعيد ميلاده. يا للقسوة. أصوات...ضحكات...حفيف ورق الهدايا المزعج...موسيقى صاخبة...وصمت مدوي في أذني. اقفز من مقعد لآخر، اضحك هنا، أالقي بتعليق هناك، وأتقافز بين المواضيع والأشخاص. أتحاشى لقاء عيني بأي شخص أو البقاء لوقت أكثر من اللازم بجوار أي شخص. ‏

تنظر لي الصديقة ذات العيون الطيبة عن كثب وتمسك بيدي لتبقيني بجوارها: "إنتي مجنونة. إنتي عارفه إنك مجنونة. مش لازم تسافري. إزاي تعملي كده؟ إنتي ادامك كل حاجة..."‏

أقاطعها لأردد كلمات ديكنز مقلدة صوت عجوز حكيم: "...كان كل شيء أمامنا، كنا جميعاً متجهين مباشرة للجنة، كنا جميعاً متجهين مباشرة للاتجاه الآخر". **

"بطلي تهريج! كلميني هنا...أنا عارفه إن ماينفعش تغيري رأيك دلوقتي، لكن أنا محتاجه أفهم وإنتي بتجري بقالك شهر وبتلفي حوالين نفسك وبتتجنبيني. إديني سبب واحد مقنع".‏

اجلس في صمت.‏

"إنتي طول عمرك شخصية مقاتلة، لكن ليه دلوقتي أنا حاسة إنك سيبتي سلاحك؟"

يباغتني كلامها تماماً. لم أتخيل إن بصرها حاد لهذه الدرجة. انظر لها مصدومة، وبالتأكيد رأت الذعر في عيني لأنها احتضنت وجهي بين يديها وقالت: "أنا برضه عارفه إنك فكرتي في الخطوة دي كويس أوي، وإن—بطريقة مجنونة ولا منطقية وغبية جداً—إنتي عارفه إنتي بتعملي إيه". تبتسم وتقبلني وتترك يدي. اجلس بجوارها يملؤني بخواء رهيب ووهن مُعجز. ‏

أخيراً الملم بقايا شجاعتي واذهب لأجلس بجواره. ابتسم ابتسامة كبيرة لا تصل إلى عيوني القلقة.‏

يقول: "ها؟"‏

"ها أنت..."

يبتسم. "ها...مسافرة؟"‏
"أيوه...وأنت وافقوا لك على الهجرة"
"أيوه...وإنتي مسافرة..."
"أنت عارف بقى، أنت دايماً تقول إنك بتقرا الكف لكن عمرك ما عملت كده. أظن مافيش وقت أحسن من دلوقتي علشان تشوف لي بختي! أنا أكيد محتاجة أعرف إيه اللي مستخبي لي هناك"
"أكيد...مافيش وقت أحسن من دلوقتي. هاتي إيدك وتعالي هنا في النور"

يمسك بيدي ويتفقد خطوطها عن كثب. يقشعر بدني. ‏

"بردانة؟"
أقول "لا" بشفتي دون صوت، مدركة إن البرودة برودة الروح وليس الجسد. ‏

"خط الحياة عندك طويل. وخط الحب بيتقاطع مع خط الحياة بدري في حياتك. لكن هتحصل لك حادثة. اممممم...حادثة هتأثر على خط الحب وخط الحياة في نفس الوقت. وشايف نقطتين: يمكن يكونوا ساعتين، يومين، أسبوعين، أو سنتين. مش عارف دول إيه".‏

على غير عادتي اضحك بصوتٍ عال محاولة إبقاء الهيستريا على مسافة آمنة. "يعني من الآخر كده أنت بتقول إني مفروض أبعد عن الحب علشان أعيش حياة طويلة وأنا بصحتي وعلشان أتفادى أي حوادث غير مرغوب فيها؟ حضرتك بتقول إني هاحب فعلاً، زي ما حلمت طول عمري، لكني هاقضي باقي حياتي "القصيرة" أرملة مكسحة كسيرة الفؤاد؟ ده ماكانش تصوري عن حياتي خالص!" ‏

يثبت عيناه في عيني ولا يدعني انظر بعيداً: "لأ...اللي بأقوله إنك لو حبيتي لازم تبقي مستعدة إنك تدي حياتك فدا الحب ده".‏

ننظر لبعض في صمت للحظة ثم اسحب يدي من يده في ارتباك وأقول: "أنا مبسوطة إنك ما اخدتش قراية الكف كمصدر أكل عيش...كان زمانك مقضّي معظم وقتك بين السجون وعنابر الكسور في المستشفيات!" أبرز له لساني لأغيظه وأغمز بعيني. يضحك بلا مرح. أقوم من جواره واحلق بعيداً. ‏

نبدأ مراسم احتفالنا بعيد ميلاده ثم "الاحتفال" بسفري. الجو العام كوميدي جداً وشلة الأصدقاء مصممون على إنني لن أصمد هناك أكثر من شهر واحد. يهددونني بالقدوم إلى المطار لتوديعي مصطحبين مجموعة كبيرة من القلل ليكسروها بعد إقلاع طائرتي. اضحك بشدة وأقول: "ومين قال إني هأقول لكم على ميعاد سفري؟!" تُفزعه هذه الفكرة وينظر لي بتفحص، يحاول أن يكتشف أين تنتهي المزحة وتبدأ الحقيقة. تفشل محاولته وأرى يأسه يبدأ في الظهور على السطح. ‏

يسأل بهدوء: "راجعه امتى؟"‏
"امممم...بعد اتنين..."
"اتنين إيه؟!"
"ساعتين...يومين...أسبوعين—"
"ماشي ماشي...خلاص...كنت باهرج معاكي على النقطتين دول! محدش يعرف يهرج معاكي أبداً؟! ده إنتي قلبك أسود بشكل!"‏
اضحك ثم أقول بهدوء: "وأنت راجع امتى؟"‏
"معنديش أي فكرة..."
"هنفضل على اتصال؟"
"ما أظنش. على بال ما استقر هناك، وعلى بال ما تستقري إنتي هناك، هيبقى مافيش معنى إننا نكون على اتصال أصلاً".‏

أخيراً جاء وقت الرحيل: مصافحات، أحضان، قبلات، ثم ألوح للجميع وانحني في حركة وداع مسرحية ثم بصوت عال يجاهد ليظل مرحاً أقول: "أشوفكم بكره يا كتاكيت!" ‏

يمشي معي حتى الباب. نقف عند المدخل في صمت. يمد يده فآخذها. ‏

يقول: "هابقى أشوفِك لما أشوفِك بقى".‏
"هاشوفك لما أشوفك، لكن أنا عارفه إنه هيبقى مش بعد وقت طويل زي ما أنت متخيل".
أغمز بعيني، يبتسم، ابتسم وأدير له ظهري وامشي بثبات. استقل طائرتي في صباح اليوم التالي بلا خوف. ‏

.......

واليوم؟ كيف سيكون الوداع؟ لقد حرصت على ألا تبوح لأحد بموعد رحلتها الحقيقي. قررت أنها ستتصل بهم من المطار لتقول إنها كانت على قائمة الانتظار وأن حجزها قد تم تأكيده في آخر لحظة. تعرف أن ذلك سيكون تصرفاً قاسياً منها ولكنها تعرف أيضاً أنها ليست شجاعة كما كانت من قبل. كما تعرف أن هذه المرة "هتشوفهم لما هتشوفهم" لكن ليس قريباً كما يظنون. ولكنها معذورة: عليها أن تعتني بنفسها وهي تعرف أنها لن تقدر على الوداع هذه المرة. لم تعد صغيرة وبالتالي أصبحت تخاف الكثير من الأشياء. ‏

تلعن عقلها لأنه لا يتوقف عن الانسياق هنا وهناك حسبما تأخذه أفكارها. تُجبر نفسها على التركيز ولكنها تعرف أن كل محاولاتها للتفكير المنطقي الليلة ستبوء بالفشل فعقلها يدبر انقلاب. ليس هناك أحد يُلام على هذا سواها: فلقد دربت عقلها دوماً على ألا يطيعها. ‏

كلما حاولت أن تجهز حقيبتها كلما ازداد الأمر صعوبة: كل قصاصة ورقية، كل صورة، كل شيء على منضدتها أو مكتبها، كل شيء في دولابها...كل شيء...كل كل شيء يذكرها بأشياء أخرى ويفتح عليها أبواب تأخذها في دهاليز تعود منها أكثر ضياعاً. تقضي وقتاً أطول مما تخيلت في الترتيب، تتوقف عند هذا وذاك لتتذكر قصة أو ضحكة أو دمعة وراء كل شيء تختار أن تأخذه أو تتركه. والقصة تأخذها لأخرى...ثم لأخرى...وأخرى...تدور وتدور وتدور...طواحين عقلها قد أصابها الجنون. تقرر أن تترك ألبومات الصور. لا داع لأخذهم هذه المرة فهي لن تنظر فيهم. أبداً. ‏

تتصل بسائق الأجرة الذي تتعامل معه ليأخذها للمطار، وتنادي على حارس البناية ليأخذ حقائبها. تترك كل شيء على حاله. ستأتي أختها غداً لتنظف المكان وتغلق الشقة. أرادت أختها أن تقوم بذلك ولم تقاوم هي. لم ترغب في أن تغلق النوافذ وتطفئ الأنوار. تنزل الدرج فتفاجأ بصديقتها ذات العيون الطيبة (الآن محجبة ومتزوجة وتنتظر مولودها الأول) في انتظارها عند مدخل البناية. ‏

"أنا كنت عارفه إنك هتعملي حاجة زي كده. إزاي؟! إزاي يجيلك قلب تعملي كده؟!"
"يا خبر! والنبي ماتزعلي! أنا ماكانش قصدي امشي كده...عشان خاطري ما تزعلي...كل حاجة حصلت فجأة!"
"يا خاينة!"

تتركها صديقتها وتعود لسيارتها تبحث بداخلها عن شيء ثم تعود لها بمظروف كبير.‏

"أنا جبتلك دي. اتصرفي بقى...شوفي لها مكان في شنطك. مش مشكلتي إنك قررتي تهربي كده!"

تفتح المظروف لتجد لوحة صغيرة لعصفور ناصع البياض يطير بحرية خارج قفصه في سماء زرقاء رائعة. العصفور يبدو سعيداً وهادئ البال، القفص يبدو صغيراً ولكن قوياً، والسماء تعد بالكثير. ‏

"دي...دي...يعني...مش عارفه أقول إيه...دي جميلة أوي! ده رسمك إنتي؟!"
"لأ يا بطيخة. أجّرت رسام متنكر وخليته يرسمك من غير ما تاخدي بالك! طبعاً أنا اللي رسمتها! مين تاني عارفك كويس زيي كده؟" تبتسم وتمتلئ عينيها حناناً. ‏

تسأل بجدية وحزم: "مين أكتر واحدة صاحبتك في الدنيا دي؟"‏
"إنتي".
"ومين اللي هتكون دايماً موجودة وقت ما تحتاجيها؟"
"إنتي".
"ومين يا هانم اللي هتوصلك المطار دلوقتي لأنها طلعت أذكى منك بمراحل وفقساكي؟ مين؟!"
تضحك وتضحك وهي تحاول ألا تبلل دموعها اللوحة: "إنتي!"‏
"كان نفسي تكوني موجودة لما أولد. كنت عاوزاكي تبقى أول حاجة ابني يفتح عينيه عليها".
"ما تخافيش يا حياتي، أنا قريت إن الأطفال مش بيفتكروا أي حاجة عن حياتهم قبل سن تلات سنين، وأوعدك إني هاكون هنا قبل ما يبقى عنده ذاكرة أصلاً". ‏‏‏
تضحك وتهز رأسها: "أنا عارفه إن لسه عندك وقت على ميعاد الطيارة. تعالي نتمشى شوية". لا تجادلها. تأخذ يدها وتسيران.‏

تسألها صديقتها: "إنتي عارفه يعني إيه وطن؟"‏
"ما أظنش إني بقيت عارفه إجابة السؤال ده خلاص".
بطيخة...كالعادة...هتعيشي وتموتي بطيخة! الوطن يا حياتي هو المكان اللي لما ترجعي له هيرحبوا بيكي وياخدوكي وسطهم غصب عن عينهم. إنتي عارفه كده مش كده؟ عارفه إن إحنا دايماً هناخدك وسطنا في أي وقت ترجعي فيه؟"‏
"بطريقة مجنونة ولا منطقية وغبية جداً...أنا عارفه ده".

في طريقهم إلى المطار والمناظر تتسارع أمامها تفكر: "إن...يمكن...يمكن أنا مش شجاعة زي ما كنت... يمكن أنا بقيت أشجع. ويمكن...احتمال يعني...إني مش مندفعة ولكني ماشية بشويش أوي في الاتجاه الصح. ومعايا الدليل مرسوم في لوحة وكله حب. ‏

..........................

*من قصيدة "مقال عن النقد" للشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب

** من رواية "قصة مدينتين" لـتشارلز ديكنز