Saturday, March 19, 2005

حنين


لن تصدق ما الذي فعلته الطفلة اليوم: أتت برزنامة حائط كبيرة، وحسبت الأيام منذ آخر مرة رأتك، وعندما وجدت أنها لا تستطيع العد بعد المئتين رمت القلم الأحمر الشمعي الصغير من يدها وزفرت بغيظ وصرخت: "يوووووووووه!! يووووه بقى!!!" وركلت الرزنامة والقلم، ووقفت في وسط الحجرة وأخذت تقفز وتدب بقدميها على الأرض في حنق وهي تهتف بأعلى صوت: "وحشتني بقى!!! بقى!! وحـشـتـنـييييييييييي!!!" قبل أن ترتمي في حضني باكية.

تطلب الأمر مني حدوتة عنك، وقطعة شوكولاتة بالبندق، ونزهة سيراً على الأقدام حتى محل البراويز لنعطيه صورتك ليضعها في برواز خشبي، ذو لون عسلي دافئ يلائم لون عينيك، لتضعها بجوار سريرها كمبادرة صلح مؤقتة. هي الآن نائمة تعلو وجهها ابتسامة صغيرة، بينما أطوف أنا في المنزل على أطراف أصابعي، أمزق كل الرزنامات وأعيد الساعات إلى ما قبل المئتي ليلة وليلة.

Friday, March 18, 2005

طق حنك


تقول إنه إذا وجدت نفسي غاضبة أو حزينة فجأة فلابد أن شيئاً صغيراً قد حدث ضايقني أو أحزنني، ولكنني لم أنتبه له في حينه. قررت أن اراجع ما حدث في الأيام الماضية لأعرف ما هو الشيء الصغير الذي ضايقني وجعل ضيقي يتراكم حتى أكاد الآن أن انفجر.

يوم الخميس بدأ جميلاً جداً. بعد أمطار غزيرة أشرقت السماء، وبدا كل شئ منيراً من الداخل. حتى أنا...كنت منيرة من الداخل، فلقد صَحِبتني إلى عملي. في المكتب أنجزت الكثير وخرجنا جميعاً للغداء سوياً، الفريق الإبداعي المكون من أربعة عشر شخصاً. مطعم على الطراز المصري سمعت عنه كثيراً ولكن أدخله لأول مرة. التقطت لك بعض الصور. جلست على أريكة على رأس الطاولة الكبيرة، واندسست بين الجالسين، وخلعت حذائي وثنيت رجلي اليسري تحت مني، وأخذت في الكلام والضحك والتعليق. أحب زملائي في الفريق، واستغرب من الطريقة التي تأقلموا بها علىّ في الشهور القليلة الماضية، فلم يعد يزعجهم كلامي المتواصل، أو غنائي بصوت عالٍ، أو تعليقاتي وضحكي وجنوني وحتى رقصي أحياناً. رغم أنني لست أصغرهم (هناك ثلاثة أصغر مني في الفريق) ولكنهم يتعاملون معي على أني الصغيرة التي يأخذونها على قدر عقلها. لا أمانع. في الواقع استمتع بحقيقة إنني أحبهم ولكني لست مرتبطة بهم. أعرف في قرارة نفسي أنه يمكنني في أي وقت أن ألخص تجربة هذه الوظيفة، وأجمع أشيائي المتناثرة على المكتب وفي الأدراج، وأعود للعمل من المنزل بدون حزن كبير أو أسف عميق. لقد تجاوزت كل ذلك بعد أن تركت أول وظيفة أحببتها. حينها بكيت حتى لم أعد أقو على فتح عيوني ولزمت الفراش. حتى الآن أذهب أحياناً لزيارتهم ولكن بدون حنين أو مرارة أو أسف. أشعر أنني أزور مدرستي القديمة، وأعرف أنني تجاوزت مرحلة المدرسة.

الأكل جميل، وعلى الرغم من أن الطبق الذي اخترته لم يعجبني، فلقد جربت كل أطباق زملائي. يُطلق علىّ أخي وابن خالتي لقب "رحاب هات حتة"، لأني أحب دائماً أن أجرب أطباق الآخرين. كل شيء مريح ومرح وهادئ. أشعر برغبة في النوم وسط رقرقة الضحكات والكلمات المتناثرة هنا وهناك. تنجدني القهوة وتعطيني نَفَس ثان. وفجأة يقول مديري إنه سيجلس معي يوم الأحد ليناقشني جدياً في العديد من المواضيع لأنه غير راضٍ عن عملي. أتوتر. هذه هي اللحظة التي بدأ فيها الغضب.

بعد الغداء والمشروبات بدأ الناس في الانصراف. بقينا أنا ومها وزميلتين لنتكلم، وقلت إنه إذا لامني المدير على هذا وذاك سأغضب فعلاً. تكلمنا حتى أذن المغرب فعدنا أنا ومها إلى منزلي لنغير ملابسنا ونرتدي الأسود. لدينا واجب عزاء. توفى خال صديقنا.

ونحن في الطريق أقرر فجأة أن أقول لمها على كل ما يوترني، وأرتاح عندما أجدها تفهم ما أريد أن أقوله بدون أن أقوله كله. نذهب لدار المناسبات وننتظر سامية وعمرو أمام المسجد. عندما يحضران يخرج خالد من قاعة العزاء ليسلم علينا. لا أستطيع أن أرسم على وجهي الحزن أو الأسف. لم أر خالد منذ فترة، فأبتسم ابتسامة واسعة وأصافحه بحرارة. تعتذر سامية لأنها تلبس البني، وأقول إنني ألبس كنزة أعارتني إياها مها لأني لا أملك شيء أسود دافئ، وتقول مها إنها ستتجمد لأن القميص الأسود الذي ترتديه قميص صيفي. يضحك خالد. أشعر برغبة شديدة في أن أحتضننا جميعاً حضن "تفعيص" لأني أحبهم جداً وأحب كيف نكون سوياً. أفتقد سارة وأسامة أكثر لأنهما لم يستطيعا الحضور. نتكلم قليلاً ثم يعود هو وعمرو لقاعة الرجال، ونذهب نحن لقاعة السيدات. أقول لسامية ومها إنني أعرف والدة خالد. ندخل فأجد أنني لا أستطيع تمييزها. ندخل فلا نسلم على أحد ونجلس في إحراج.

تقول مها: "شكلنا وحش موت! دخلنا كده وماسلمناش على حد!"
تقول سامية: "الست اللي قاعدة جنب الباب دي شكلها هي اللي بتاخد العزا. تعالوا نقوم نسلم عليها".
أقول: "لأ استنوا نسلم على مامت خالد".

نجلس في حيرة.

تقول سامية: "طب نسأل مين مامت خالد؟"
أقول: "طب اسألي اللي جنبك..."
تقول مها: "افرضي قالت لك خالد مين!"
تقول سامية: "طب إنتي عارفة اسم مامت خالد؟"
أقول: "لأ مش عارفه! هعرف اسم مامته ليه؟! بصوا هي يمكن دي أو دي".

نعاين السيدتين. كلتاهما تشبهان خالد!

تقول سامية: "قومي إنتي يا رحاب اسألي. هزي طولك كده!"
أقول باستغراب: "إشمعنى أنا اللي أهز طولي؟!"
تقرر سامية: "علشان إنتي قصيرة ولو هزيتي طولك محدش هياخد باله".

أدير عيني في محجريهما وأمط شفتي في ابتسامة مغتاظة. أنظر حولي مرة أخيرة أحاول أن أجد والدة خالد بلا جدوى. أقوم فأسأل عنها السيدة التي تجلس بجوار الباب فتأخذني لإحدى السيدتين التي كنا نشك فيهما. أسلم عليها وتأتي سامية ومها، وتقول والدته لسامية: "أنا كنت باشبه عليكي من ساعت ما دخلتي بس قلت إيه اللي جابك! قصدي يعني عرفتي منين!" نضحك وتضحك وتقول "خلوا بالكو من خالد بس" فأقول إننا دائماً "مخليين بالنا منه".

نعود إلى مقاعدنا. أدرك فجأة أنني أرتدي نفس الجاكت والبنطلون الذين ارتديتهم طوال أيام العزاء بعد أن توفى عاطف زوج ابنة عمتي. أسمع مريم ذات الخمس سنوات وهي تقول باستنكار شديد: "إنتي لابسة نفس اللبس تاني؟!"، وأسمع فريدة ابنة عاطف ذات الخمس سنوات أيضاً وهي تقول: "إنتي كمان؟؟ إنتي كمان لابسة أسود؟"، وأشعر برغبة في الخروج فوراً وشراء أي شيء أحمر...أي شيء فيه حياة. هذه هي اللحظة التي بدأ فيها الحزن.

مها تجلس في الوسط. بوجه جاد جداً أميل على مها لأقول لسامية: "عاوزة وصفة الشوربة". تفغر سامية فاها وتبرق عينيها، وتطرق مها وتأخذ في الضحك مختبئة في شعرها الطويل، وتفرك سامية جبينها ويحمر وجهها وهي تحاول جاهدة ألا تضحك بصوت عالٍ.

"أنا باتكلم بجد. عاوزة وصفة الشوربة. بتضحكوا على إيه؟ هأنسى...لما أخرج من هنا هأنسى".

تهزان رأسيهما في أسف لحالتي وتقرر مها أنني مصيبة وفضيحة.

يقول المقرئ "صدق الله العظيم" فنسلم على والدة خالد مرة أخرى ونخرج. نقف قليلاً معه ونستفهم منه كيف توفى خاله، ونسأله إذا كان يرغب في أن يذهب معنا لاحتساء القهوة في أي مكان قريب فيعتذر ونمضي.

نتجه للكوربة. ألاحظ أن العديد من عمارات شارع بغداد قد أُعيد طلاؤها. ينعكس عليها النور من مصابيح الشارع فتبدو منيرة جداً. أشعر أنني في فيلم قديم أو صورة سيبيا. أمشي بتمهل وتغني مها ويسبقنا سامية وعمرو. أريد أن أسير قليلاً في الكوربة ولكن لا أريد أن أكون وحدي ولا أريد أن أكون معهم. على أي حال أكره الكوربة وهي مزدحمة هكذا ليلة الخميس. قضينا وقت ظريف في لو شانتي، تكلموا هم وضحكنا كثيراً. كان من الممكن أن أستمتع بالأمسية لو كنت فقط استطعت أن أزيح جانباً هذا الحزن الذي بدأ يتحكم في. خرجنا من المطعم ووقفنا أمام بعض المحلات. دخلوا محلاً للأثاث وتبعتهم. ثم أحسست بضيق نفس فخرجت في الشارع. وقفت قليلاً ثم تذكرت أن الكوربة مشهورة بأنها مكان لالتقاط الفتيات، فرجعت إلى الوراء ووقفت بجوار الرصيف أنظر ولا أرى. يجب أن أذهب لزيارة ابنة عمتي. لا يمكنني تفاديهم للأبد. دي تصرفات عيال. لازم أكبر بقى. بس مش قادرة. مش قادرة أدخل البيت. مش قادرة حتى أكلمها في التليفون وأسمع رنة الحزن المستسلم في صوتها.

لا يمر يوم لا أفكر فيه في عاطف، فعلى الطريق الدائري الذي أسلكه للعمل كل يوم غالباً ما يكون هناك رادار ولجنة. آخر مرة الصيف الماضي عندما سحبوا رخصتي وحرروا لي مخالفة سرعة على الدائري كان عاطف هو الذي أعاد لي الرخصة. وعند عودتي من الإسكندرية الأسبوع الماضي سحبوا رخصة قيادتي عند مدخل الإسكندرية، وسحبوا رخصة السيارة في وسط الطريق. تملكني حزن هائل مؤلم. شعرت أنني أريد أن أجلس على جانب الطريق، أهيل التراب على وجهي وأبكي بحرقة. فكرت أن أحاول أن اشرح للضابط: "شوف حضرتك...ماينفعش تسحب الرخصة...عاطف مات...ودلوقتي مين هيجيبهالي؟ بجد ماينفعش...أنا مش هأعمل كده تاني بس من فضلك ماتسحبهاش".

تخرج مها من محل الأثاث ويتبعها سامية وعمرو. أريد أن أركض بأقصى سرعة أو أنام لبضعة أيام. أدفع يدي في جيوبي أكثر وأسير في صمت. نسلم على بعض ونفترق وأعود للمنزل. لا أتذكر كيف مضى الوقت حتى نمت. قرأت قليلاً في "قميص وردي فارغ" لنورا أمين وأبتسمت عندما وجدتها تشكو من ارتداء الأسود والذهب والكعب العالي، وتذكرت شكوى لطيفة الزيات من الكورسيه. معضلة المرأة الحديثة. لماذا لا يتحدث أحد عن الجوارب "الفيليه" الشفافة؟ ربما علىّ أن أذكرها في القصة القادمة.

ويوم الجمعة استيقظت مبكرة. حلمت حلم مقبض للغاية. حلمت أنني في لبنان، أجلس في سيارة ويسألني عسكري عن اسمي، ومن اسمي يعرف ديانتي فيصوب مسدسه لرأسي ويضغط الزناد، وأن آخر شئ قلته لنفسي هو: "لا تقلقي"، ثم همست بالشهادتين وأظلمت الدنيا. أعرف أن هذا مشهد من فيلم تسجيلي عن لبنان وفيروز اسمه "أحببنا بعضنا جداً" شاهدته في مهرجان الفيلم الأوروبي منذ بضعة أشهر. ولكن في المشهد تحكي السيدة أنهم قتلوا أخيها وهي بجواره في السيارة. وبعد أن انتهت من حكايتها تحول المشهد إلى لقطات للبنان أثناء الحرب وفي الخلفية أغنية فيروز "صباح ومسا"، وأخذت أنا في البكاء حتى نهاية الفيلم، وأخرجت مناديل ورقية تقاسمتها مع المرأة الجالسة بجواري التي لا أعرفها. عندما استيقظت من الحلم شعرت بالإشفاق على نفسي لأن آخر شئ قلته هو "لا تقلقي". أسيكون هذا هو فعلاً آخر ما أفكر فيه؟ ارتحت إلى حد ما لأني استطعت أن أقول الشهادتين. اختلفت الأراء حول الدين والله، ولكني أحب الله جداً وأعرف أنه يحبني جداً، لذلك لا أهتم بأغلب هذه الآراء.

ساعدت أمي في ترجمة مقالة. أحاول أن أقاوم تعب عميق يسكن جسمي. كل شئ يؤلم. تمددت أقرأ في السرير لساعتين حتى نمت مرة أخرى. انتهيت من القميص الوردي وبدأت "الباب المفتوح" للطيفة الزيات. استيقظت في الخامسة لأجد أن كل الناس اتصلت بي. رددت على مكالمة واحدة وأجلت الباقي لبعد قيامي من السرير. أعود للقراءة. منذ فترة لم تستغرقني رواية هكذا. أريد أن أكتب ولكني متعبة للغاية. تقول أم البطلة في "الباب المفتوح" إن "جسمها مهزوم" فأجد إن هذا أفضل وصف لحالتي. أدركت أنني نسيت أن أكتب شيئاً في قصة "أنا والضباب وهواك"، وأخذت أفكر في جدوى إضافة بضعة سطور للقصة.

يقترح سامية وعمرو السينما، وتقترح مها مسرحية في الهناجر، وأعتذر عن القيام من السرير. يمر اليوم في القراءة وتفادي الاتصالات. لا أستطيع النوم قبل أن انتهي من "الباب المفتوح".

والسبت استيقظت في السادسة صباحاً فجأة، لأجد صديق لنا في الخارج لم يتصل بي منذ أن سافر قد اتصل بي في الرابعة صباحاً...من البلاد الباردة! تتسارع ضربات قلبي، ويبرد جسمي كله في لحظة، وأفكر في كل الاحتمالات المرعبة. أقوم لأتفقد البريد الإلكتروني. لا شيء. أرسل له رسالة. لا يرد. أعود لنوم قلق. من المفروض أن أذهب لزيارة صحراء المماليك اليوم ولكني متعبة. قررت أن أنام حتى ولو كان نوم قلق. تفتح أمي باب غرفتي وتترك كفته على السرير لأنها لا تستطيع أن تقوم بأي شيء في المنزل لأنه يجري حولها في كل مكان. نعود أنا وكفته للنوم. أستيقظ وأبدأ في القراءة. تفتح أمي الباب: "أنا عارفه إنك مستمتعة بالقراية وكل حاجة، بس ممكن تنشري الغسيل وأي كلام أي كلام أي كلام". أتوقف عن السمع. هذه هي اللحظة التي بدأ فيها الغيظ.

اليوم هو الثاني عشر من مارس. ستة شهور ويوم. أزفر زفرة طويلة. مرت منهم أربعة شهور وأنا أكتب وأكتب.

أحاول أن أخطط لليوم: سأذهب لمصفف الشعر، ثم أشتري رمل للقط، وربما أصلحت الساعة، أو سأذهب لأمشي في حديقة الأزهر، أو سأذهب للمقهى الذي أحبه وأكتب، أو سأذاكر، ربما أقرأ قليلاً. من المؤسف أن يكون أمامي يوم طويل هكذا لنفسي ولا أفعل فيه شيء مفيد.

أماطل. لا أريد أن أقوم من السرير. يؤلمني فكي بشدة. كنت أجز على ضروسي طوال الليل. في مثل هذا الوقت العام الماضي خلعت كل ضروس العقل. أبتسم وأنا أتذكر سامية وهي تقرصني في ذراعي وتصيح في أذني: "اصحي يا رحاب! اصحي يا رحاب!! يا رحاب اصحي بقى!!"، وأمي وخالتي وهما تستدرجانني في الكلام وأنا تحت تأثير المخدر: "ها وبعدين؟"

أقوم وأنا أغالب الصداع. أريد قهوتي حالاً. أتذكر أنني كتبت جزء من سميرة أثناء النوم. أحاول أن استرجعه ولكن أفشل. أغتاظ. أركز أكثر. أتذكره! في المطبخ أجد القهوة التي أحبها قد نفدت. أغتاظ. أفتح عبوة زبادي، أجد طعمها في غاية المرارة، أغتاظ. طلبت من البقال ألا يرسل هذا النوع ولكنه أرسله. أقرر أن أستحم. أدخل الحمام وأخلع ملابسي، لا أجد صابون، أغتاظ. ألف المنشفة حولي وأخرج لأحضر الصابون، أدخل، أنزع المنشفة، لا أجد كريم الشعر، أغتاظ. ألف المنشفة حولي وأخرج مرة أخرى. أبحث عنه في كل مكان. يبدأ صوتي في الارتفاع. لا أجده. أغتاظ. أدخل الحمام وأبدأ في الاستحمام. اللوفة طرية! أكره ذلك! أكره اللوف الطري! مقرف مقرف مقرف! كيف يتمكن أحد من الاستحمام بلوفة طرية؟! أبدأ في البكاء تحت الدوش. لماذا يتآمر الجميع على حرق أعصابي؟

أخرج من الحمام، وأرتدي ملابسي، وأجلس في غرفة المعيشة أمام التلفاز المغلق. أقرر أن أجلس لمدة خمس دقائق دون حراك لأمشط شعري في صمت وهدوء. أرفع رأسي فأرى كتاب يحملق في من على أحد الرفوف: "علاج التقلبات المزاجية". أغتاظ: أنا لا أعاني من تقلبات مزاجية! أنا ضحية لتصرفات من حولي! اقرر أن أفكر في شيء مبهج. أنظر من النافذة فأرى سحابة صغيرة ممتلئة تطفو بتمهل. أبتسم. أمنية حياتي أن أجلس على سحابة، سحابة وردية كغزل البنات. عبرت عن هذه الأمنية مرة أمام شخص ما فقال إنه من المؤكد أنني سأسقط، فلا أحد يمكنه الجلوس على السحاب. ذكرني بمستر جرادجرايند في قصة تشارلز ديكنز "أوقات عصيبة" وهو يصرخ في التلاميذ الصغار ويقول: "الحقائق! الحقائق! التزموا بالحقائق!". كم كرهت مستر جرادجرايند وكرهت ذلك الشخص.

لا أدري لماذا درسوا لنا تقريباً كل قصص تشارلز ديكنز في المدرسة. هل كانوا يريدون لنا أن نفهم "بالذوق" أننا أفضل من غيرنا؟ إننا مهما كانت طفولتنا تعيسة فنحن أفضل من دافيد كوبرفيلد الذي توفى والداه وتحكم فيه الجميع واضطر أن يتعامل مع شخص لزج "متواضع" ذو يد باردة وابتسامة صفراء مثل يوريا هيب، أو أفضل من أوليفر تويست (اليتيم أيضاً) الذي استغله المجرمون، أو أفضل من بيب (يتيم آخر) الذي تلاعبت بعواطفه ستلا ومسز هافيشام المتعفنة. ناهيك عن سيدني كارتون الذي أبكي كلما شاهدته في فيلم "قصة مدينتين" وهو يساق إلى المقصلة بدلاً من الآخر الذي لا أتذكر اسمه. لماذا فرضوا علينا كل هذه المآسي؟! لم أصدق نفسي عندما وجدت أن مقرر الرواية في عامي الثاني بالكلية يشمل "أوليفر تويست"! تاني؟! أوليفر تاني؟! من كل أمهات الأدب الإنجليزي لم يجدوا غير أوليفر؟! أغتاظ وأنا أتذكر ذلك فأتوقف عن تمشيط شعري وأقوم قبل مرور الخمس دقائق. والله العظيم لا أنا نازلة وقاصة شعري! أحاول دائماً أن أنكر أي علاقة بين قصي لشعري وتقلباتي المزاجية، ولكني أعرف نفسي أفضل من ذلك. تقول هلا: "قصي شعرك تغيري حظك". جربت ذلك أيضاً. لم ينفع.

ماذا أفعل بنفسي الآن؟ أنا مغتاظة وغاضبة وحزينة. وكل شيء يؤلم...كل شيء.

أعود للسرير وأدفن رأسي بين الأغطية استعداداً لماراثون نوم جديد. آه يا براح عمال بيضيق!

Tuesday, March 01, 2005

أنا والضباب وهواك


اشفقت علىّ أمي عندما قرأت ما كتبته عن حزني لعدم زيارتي للأسكندرية منذ خمسة أشهر، ففاجأتني مساء يوم الخميس:

"نطلع اسكندرية بكره الصبح؟"

"موافقة!"

"واللي يرجع في كلامه؟"

"يبقى عيل!"

صباح الجمعة: ضباب يلف القاهرة وتزيد كثافته كلما اقتربنا من المحور. وعند المحور كنت أمشي على سرعة 40 كيلومتراً في الساعة، وأرى السيارة التي أمامي فقط لأن قائدها أضاء أنوارها. شعرت أنني سمكة في حوض السمك! شعرت شعور أسماك أمي عندما تسافر وأنسى تغيير المياه لهم. اجتهدت لأركز في الطريق وأنا أسترجع ما أعرفه عن الضباب

يتكون الضباب عندما يبرد الهواء لدرجة يبدأ عندها بخار الماء في التكثف على هيئة قطرات صغيرة جداً من الماء.

في العام الذي عُرف بعام الضباب كانت أمي تذهب للكلية لتحضر محاضراتها وتقابل أصدقائها، ولكنها كانت تذهب للكلية بشكل عام لتلعب التنس وتجدف في النيل. كانت أمي مقررة اللجنة الرياضية ونائبة رئيس اتحاد الطلبة. وبين ليلة وضحاها أصبحت رئيسة الاتحاد، فلقد استُدعي رئيس الاتحاد لقضاء الخدمة العسكرية! وجدت أمي نفسها وسط مظاهرات واعتقالات ومحاكمات للطلبة: "رحنا النيابة. ورحنا معاهم المحاكمة. كان لازم نروح. مش معقولة يعني واحد زميلنا يبقى معانا بيحضر محاضرات وتاني يوم متهمينه بالخيانة العظمى!"

الأسبوع الماضي، في أول محاضرة لها في الفصل الدراسي الجديد، وبعد أن وزعت أمي على الطلبة المقرر وقائمة بالكتب والمراجع، سألت إذا كان لديهم أي سؤال، فقامت طالبة منقبة وسألت أمي: "إنتي ليه مش محجبة؟"

أول ذكرياتي عن الضباب: كنا نجوب أوروبا في سيارة مستأجرة. أعتقد أنني كنت في السابعة أو الثامنة من عمري لأن شعري في الصور قصير جداً. كنا في مكان ما على جبال سويسرا وأخذت السيارة في تسلق جبل شاهق. كنت أنا وأخي نائمين واستيقظت لأجد أنني لا استطيع رؤية أي شيء خارج نوافذ السيارة. سألت أبي فقال إن هذا مجرد ضباب، وأنني إذا نظرت جيداً سأستطيع تمييز سفح الجبل العالي الذي كنا نرتقيه ببطء، وغالباً شرح لنا أبي ما هو الضباب. لا أتذكر ما إذا كنت نظرت لأسفل أم لم أنظر، ولكن أتذكر أنني لم أكن خائفة وأخذت اتأمل بتعجب حالة انعدام الرؤية خارج النافذة حتى سقطت في النوم.

تقول أمي إن فروض الإسلام خمس.

وفي لبنان منذ عامين، وبعد جولة في غابات الشوف وبيت الدين ودير القمر، توجهنا إلى غابات الباروك. جبل شاهق آخر. أشجار الأَرز في كل مكان وأسفلنا يتضاءل العالم بسرعة. إحساس غريب يتملكني وأنا أصعد لأعلى...لأعلى...لأعلى...

(أخذت أليس في الهبوط لأسفل...لأسفل...لأسفل في جُحر الأرنب)

الجو فوق الجبل محدد الملامح. لا أعرف إذا كان هذا هو التعبير الصحيح ولكن هذا كان إحساسي: جو صريح. العالم يبدو وكأني فجأة نظفت زجاج نظارتي. رائحة الصنوبر والأشجار والأرض تملؤني. أتخلف عن المرشد وباقي المجموعة وأقف في الصمت. الصوت الوحيد هو عجلات عقلي وهي تحاول أن تتوقف. فجأة يحيط بي الضباب. أدور ببطء في مكاني. لا...هذا ليس ضباب...إنه السحاب...أنا أمشي بين السحاب! أنا فعلاً أمشي بين السحاب وهذا ليس تشبيه بليغ أو استعارة! كنت أود أن أقول إنني احسست بالخفة والتلاشي في روح العالم ولكنني كنت مشغولة، أحاول أن أركز جداً في مراقبة ماذا سيحدث لي وأنا أمشي بين السحاب، فلم أحس سوى بسعادة غامرة ثم قشعريرة مفاجئة تلتها رغبة شديدة في أن يحتضنني أحد. التقطت عود خشبي رطب وتنفسته بعمق، وأسرعت لألحق بأصوات عائلتي.

يقولون إنه عندما يقشعر بدنك فجأة فهذا معناه مرور روح ما عبرك.

والأسبوع الماضي أحاط بالطريق الدائري ضباب كثيف تسللت عبره قطرات كبيرة من المطر. أخذ الطريق مني ساعة وربع رغم أنه في العادي يأخذ نصف ساعة. اضطررت لأن أسلك طريق جديد، فزدت من ارتفاع صوت ألانيس موريسيت في المسجل وركزت كل جهودي على التدريب على نفخ بالونات كبيرة من اللبان حتى لا أفكر...

(الوقت متأخر...الدنيا ضلمة...الضباب وصل لحد عقلي...غالباً هأتوه لأني ما جربتش الطريق ده قبل كده...بس أنا عندي إحساس كويس بالاتجاهات...بالونة أكبر...أيوه...من غير ما تلزق في مناخيري...كويس...واحدة كمان...)

على أول طريق السويس (أو ما أظن أنه أول طريق السويس) انقشع الضباب فجأة وتوقفت الأمطار واكتشفت أني—يا سبحان الله!—عند بداية طريق التجمع الخامس! تنهدت وابتسمت بفخر: أهوه! ما توهتش! لازم تبقي واثقة في قدراتك! انتقل بالموسيقى إلى ديانا كرال. ألف اللبانة في منديل وألقي بها في المطفأة وأغني مع ديانا بأعلى صوت: "بيساميه...بيساميه مووووتشووووووو..."