Tuesday, December 09, 2008

في يوم من الأيام في شارع رمسيس



بعد رحلة طويلة بالقطار عودة من الإسكندرية، أودِّع صديقاتي عند محطة مصر وأصعد كوبري المشاة لأعبر للجانب الآخر من شارع رمسيس. فقط وأنا في منتصف الكوبري أدرك إنها تقريبا الحادية عشرة مساءً، وأننا في الشتاء، وأن الشارع والكوبري والعالم يكاد يكون خاويا. يُجري عقلي حساباته التقليدية في مثل هذه الظروف فيراجع على ملابسي (جاكت طويل، تمام. بنطلون واسع، تمام. كوفية، تمام. بيريه على الراس، تمام)، ومشيتي (أسرع.. أسرع، تمام)، وأي حُلي ألبسها (خاتم صغير، تمام. سلسلة مش باينة، تمام)، ويُصدر الأوامر لجسمي فانكمش بداخله وافتح كل حواسي على الخارج في نفس الوقت لأستطيع أن أتصرف بسرعة إذا "ضايقني" أي شخص على الكوبري أو في الشارع. لا يأخذ الكوبري كالعادة إلا بضع دقائق، والتي تبدو-كالعادة-كساعات طويلة، أخترع خلالها سيناريوهات لانهيار الكوبري على الطريق، أو هجوم مجموعة من اللصوص عليّ، أو مقابلة أمرأة مجنونة تهذي وتتنبأ بمستقبلي. على الناحية الأخرى من شارع رمسيس أقف في مكان شبه مظلم و"ملقف" هواء لأحاول أن أجد تاكسي يرضى بالذهاب إلى مدينة نصر. أنظر حولي فأُدرك أن إلى يساري محل العصير الذي أشرب منه دائما، وإلى يميني.. هناك.. محل العصير الذي أتفاداه دائما، ومن بعده.. 291 شارع رمسيس.


كان جدي لأمي يهوى تملك وسكن العمارات المثلثة التي تبدو مثل قطعة من تورتة، فتطل شرفاتها على شارعين. في باب الشعرية والسكاكيني والظاهر، في رشدي والأزاريطة والإبراهيمية، حتى في أبو قير.. تملك وسكن واستأجر جدي العمارات المثلثة. ربما خانه الحظ مرة، في أبو قير، حيث اشترى بيت له ناصيتين ولكنه "مش شبه حتة الجاتوه"؛ ومرة أخرى، في أبو قير أيضا، عندما تغير نظام المقابر فأصبح قبره واحد وسط صف من المقابر.. لا يطل على ناصيتين ولكن يرى البحر من بعيد.


من الصعب أن أذهب إلى الإسكندرية دون أن أذكر جدي. من الأصعب أن أسير في شارع رمسيس دون أن أذكر جدتي. كثيرا ما يبدو لي بيت رمسيس وكأنه كان سكننا الخاص أنا وجدتي دونًا عن باقي العائلة، الذين يمرون في ذكرياتي عن هذا الوقت ككومبارس. ففي بيت رمسيس وُلِدت على سرير جدتي، نفس السرير الذي ماتت عليه بعدها بخمس سنوات. لا يعرف أحد من عائلتي كم السعادة التي تشملني عندما يقولون إنني أشبه جدتي في هذا أو ذاك. كثيرا ما تقول أمي: "اللي خلف ما ماتش.. يلدز ما ماتتش.. نفس البصة.. نفس الزغرة.. نفس الضحكة.. ساعات بأحس إني بأكلم مامتي مش بنتي". أُخيف أمي أحيانا بما أذكر عن بيت رمسيس، وتصر أنه لا يُعقل أن أذكر شيئا عنه وأنا دون السادسة من عمري. ولكن في لحظات الرضا.. تُقر أمي أن ذكرياتي كلها صحيحة..


كان عندي ضفيرتين، وكنت ألبس روب أزرق (نحل كالعادة وبره من كثرة تكويري للوبر كرات صغيرة انزعها منه بعد ذلك لأتركه أجردا). يومها دخلت في رجلي خشبة صغيرة جدا ولكني لم أبك، بل تحملت في شجاعة بينما أخذت أمي تنزعها لي بالملقاط. طلبت جدتي أن تراني، فدخلت حجرتها المنيرة ووجدت حولها ناس لا أعرفهم. قالوا لي إنهم الأطباء، ولكني رأيت بينهم سيدة جميلة جدا تلبس بدلة بيضاء وشعرها طويل، وكانت تبتسم ابتسامة واسعة. لم يرها أحد غيري، ولم أسأل من تكون. ابتسمت لي جدتي وقالت لأمي: "خدي بالك منها"، ثم أخرجوني من الغرفة.
عند لحظة ما في هذا اليوم، أرسلوني لطنط كينجا اليونانية التي كانت تسكن في الدور الأخير من البيت، لأجلس عندها بعض الوقت. كان عند طنط كينجا كلب كانيش أبيض صوته عالٍ و"مسرسع"، أخذ يجري ورائي في الشقة كلها وهو ينبح بلا توقف، حتى تسلقت طاولة السفرة ووقفت عليها وأخذت أزعق فيه ليسكت. أعتقد أن هذا كان أكثر ما آلمني يومها: أن يتركوني وحدي مع هذا الكلب.. حتى طنط كينجا!


أذكرني بعد ذلك أنا وأمي على سلم العمارة وهي تحاول أن تشرح لي، وهناك شعاع دافئ يدخل من المنور ويصل بيني وبين الشمس مباشرة.. نفس الإضاءة التي كانت تدخل من "شراعة" باب جدتي، فتمر من جانب اللوحة الكبيرة التي عليها القرآن كله مكتوب بخط صغير للغاية، فتفترش بلاط مدخل البيت في وداعة. كان شعاع الشمس مليء بالملائكة، هكذا قالت لي جدتي زمان، إن كل هذه الذرات الصغيرة التي تلعب في النور هي ملائكة صغيرة. كانت أمي تشرح لي وكنت أنا أركز في شعاع الشمس لأطمئن على وجود الملائكة الصغيرة.


كانت جدتي أول من حكى لي حدوتة. في الحقيقة، هنا تخذلني الذاكرة، فلا أذكر من حواديتها إلا "عقلة الصباع". لا أعرف إذا كانت هذه هي الحدوتة الوحيدة التي ظلت تحكيها لي لخمس سنوات، أم هي أكثر حدوتة أعجبتني فضحى عقلي بباقي الحودايت من أجلها. كان "عقلة الصباع" يبهرني دائما بأسلوب حياته ومغامراته، التي كانت كبيرة على صغر حجمه. عقلة الصباع كان عنده نظارة "أد كده" (وهنا تضم جدتي السبابة والإبهام لتوضح صغر النظارة، وتُطيل في "أد" زيادة في الشرح)، وجزمة "ااااااد كده"، وبيت اااااد كده. وفي الصيف، كانت صاحبته تملأ له صينية كبيرة بالرمل، وتسكب في طرفها بعض الماء، وتزينها بالأصداف وأوراق الشجر، فيفرش "عقلة الصباع" بشكير اااااد كده، ويلبس مايوه اااااد كده، ويقعد تحت شمسية اااااد كده يتشمس. وبعد قليل كان ينزل الماء (في الطرف المائي من الصينية). كانت صاحبته تصنع له ساندويتشات، فتضع فتفوتة جبنة اااااد كده، على فتفوتة عيش ااااد كده، وتقدمه له على زرار صغير ااااد كده. وكانت نظارة عقلة الصباع مصنوعة من حبتين ترتر اااااد كده مربوطين في بعض.


كانت هذه أول مرة أرى جدتي لأبي خارج بيتها، وأذكر أنني استغربت جدا من وجودها ومن شربها القهوة، ومن "التايير" الأسود التي كانت تلبسه، بعكس الجلاليب القطنية الفاتحة التي كانت تلبسها في بيتها. لم يكن هناك أي رجال في البيت، وكأن الحزن طقس نسائي بحت. أتت عائشة التي كانت تنظف البيت لجدتي، وكانت تتعاون مع أخريات على حمل طشت كبير من الحديد به لحم وأرز. تجمع الكل في غرفة السفرة، الغرفة التي تطل شرفتها على السكاكيني، حيث كنا ننزل منها السَبَت، فيضع لنا فيه "بتاع الزبادي" سلطانيات الزبادي الدافئ، الذي كان يزينه لي خالي بالعسل، أو كنت أدس فيه ملبِّس الحمص خلسة لأحلي طعمه. نفس الشرفة التي كانت تطل على بقالة "على كيفك"، التي كانت أمي تفضل سندويتشاتها على أكل البيت، فتتأخر في الذهاب للمدرسة أو العودة للبيت لأنها تتزاحم مع باقي التلاميذ على سندوتشات البسطرمة (النيئة) التي تحذرها منها أمها. لا أذكر أن أحد ولول أو صوَّت، ولكني كنت في الخامسة، وكنت بدأت أعاني من مشاكل في السمع.


كنت أنام بجوار جدتي أحيانا، ومن وقتها اكتسبت عادة أن أسند رجلي على مخدة وأنا نائمة، تماما مثلما كنت أسندها على جدتي وهي نائمة بجواري. حتى الآن، إذا استكنت تماما، أستطيع أن أستحضر صوت جدتي وعبيرها. أحيانا يكون "لافندر الشبراويشي" وأحيانا أخرى "خمس خمسات"، وإن كنت متأكدة من إنها كانت تخلطهما ببعضهما بعد أن تضع بودرة التلك هنا وهناك، فأنا جدتي وجدتي أنا.


التاكسيات ما بين رافض للذهاب لمدينة نصر، أو رافض للوقوف من حيث المبدأ. أقرر أن أمشي قليلا لأقترب من المحلات ومجموعة من الناس واقفون في انتظار. أُدرك أن هذه أول مرة أمشي في شارع رمسيس على قدمي. أبتسم: بامبو الويشي، ملك المانجو، فراخ كوكو، محل البراويز، محل جاد للعصير، بيت تيتة. لأول مرة أفهم لماذا أشرب العصير عند هذا المحل ولماذا أتفادى ذاك. أتفاداه لأني إذا ذهبت هناك لن أجده، ولن أجد بيت جدتي، ولن أجد شرفة غرفتها التي تميل عليها النخلة.


ربما كانت المرة الوحيدة التي سمعت فيها حدوتة "عقلة الصباع" بالكامل في المستشفى، وأنا وجدتي في غرفة أمي، وأمي نائمة بعد ولادة أخي. كان الوقت متأخر جدا، وكانت الغرفة هادئة جدا، وكان هناك نور أزرق خافت، وكان الجو برد، وكانت جدتي تحتضنني، وكان عقلة الصباع عنده نضارة أااااد كده، وجزمة أااااد كده، وكانت ماما أااااد كده، وكان أخويا أااااد كده، وكنت أنا أااااد كده، ولكن جدتي كانت أاااااد الدنيا دي كلها.