Monday, December 07, 2015

سجاير كتير

أيقظه توقف التكييف من نوم ثقيل، عرقه مرقه. أحس بسقف الغرفة يطبق على صدره. رفع رأسه بصعوبة ودقق النظر في التكييف فأدرك من ظلام لمبته الصغيرة أن الكهرباء انقطعت. في حركات تشبه الغريق الذي يحاول أن يبقى طافيا، أخذ يبحث عن نظارته وموبايله على الكمودينو والأرض وبين الملاءات.
اعتدل في السرير وجلس يتصفح الفيسبوك متفقدا صور حفل التوقيع بالأمس. يا لها من ليلة تستحق الصداع الذي يفتك برأسه ويكاد يدفع بعينيه من محجريهما. أين الصورة؟ ها هي؛ هذه هي المرأة التي كان يصفها الكُتاب زمان بالخلاسية، ونقول نحن عليها في الشرق خمرية. يكتب على صفحته بالفيسبوك: "أحاطتني مدينتكم بسمارها ودفئها وعيونها الذهبية. ممتن للدعوة الكريمة ولليلة من ليالي السِحر والدهشة".
تناول دواء القلب والضغط بعد الإفطار الذي أعده له الطباخ، وأخذ حماما طويلا، وحلق ذقنه، ولوّن خصلاته البيضاء بالماسكارا السوداء، وتعطر ولبس جلبابا مغربيا فاخرا، وجلس في الشرفة يدخن. هل ستأتي؟ استرجع في ذهنه شريط الليلة: دخولها المتهادي، حبكة الفستان حول انحناءاتها، الشعر المتمرد الذي أبى ألا ينهمر على كتفه وهي واقفة بجواره، ناثرا عطرها حوله، ثم وهي تذهب متمهلة، والخلخال الذهبي الرقيق. قامت حروب من أجل نساء أقل جمالا منها.
هل كان واضحا؟ هل كان مفضوحا؟ كم تبلغ من العمر يا تُرى؟ لا يظن أنها تجاوزت الثلاثين. هوة سحيقة تفصلهما، ولكنها لن تكون الأولى التي يتجاوزها.
يكتب على الفيسبوك: "أشتاق إلى أمرأة أمهرية الجوهر، خلاسية المظهر، وجودها يسبِّح بسره الصوفيون جميعا، ولجيدها سِحر لم يطأ التاريخ من قبل، أشن من أجلها حروبا تجعل من طروادة مجرد عركة في حارة". يحذف "عركة في حارة". بلدي أوي. يكتب "تجعل من طروادة مجرد تدريب للمبتدئين في فن القتال والأسر".
تابع من يعمل "لايك" للجملتين. لا تظهر الخمرية. يتأكد من أن موبايله ليس على الصامت. لماذا أتت بكل بهاءها إذا كان كل ما تريده هو مجرد توقيع على نسختها من كتابه؟ لماذا قَبِلت الانضمام لشلة المعجبات والمعجبين وجلست بجواره في المقهى الضيق؟ لماذا ضحكت على كل كلامه وأعطته رقمها وأخذت رقمه؟
أجرى بعض المكالمات ليجعل الوقت يمر أسرع: اتصل بابنه ليتأكد من أن مصاريف الجامعة قد وصلته، واتصل بابنته ليسأل على حفيده لأنه كان متوعكا بالأمس.
طلب فنجانا آخر من القهوة، أحضره الطباخ ومعه الجرائد. بعد بحث مضن وجد صورة واحدة لحفل التوقيع في إحدى الجرائد المغمورة. ولّت أيام ظهوره في الصفحة الأولى والمانشيتات الحمراء. ما هذا المنظر! ما أحمر ذلك المصوّر! يبدو في الصورة كخرتيت، بجفونه المنتفخة وتجاعيد وجهه وتجهمه.
رد على بعض رسائل المعجبات، على الفيسبوك والتويتر والإيمايل والواتساب. اتصل بناشره يطلب منه نصف مليون جنيه دفعة مقدمة عن الرواية الجديدة قيد الكتابة، وتخانقا كالعادة.
مزيد من السجائر. لوهلة رأى نفسه من خارج الكادر: رجل كهل، يرتدي جلبابا ويقرأ الجرائد في البلكونة، "راجل بركة"، لا وظيفة ولا عائلة، يجلس بالساعات في انتظار الموت، أو فاتنة عابرة تذكره بأنه ما زال على قيد الحياة، فاتنة ترى تحت جلد الخرتيت السميك قلب يخشى الوحدة، وشاب مفزوع يشعر بالخيانة لأنه عندما ينظر في المرآة يرى وجها لا يعرفه تقدم به السن في حياة لم يفهمها بعد.

Monday, November 30, 2015

من لم يمت بالسيليبركس



صدمه صديقه الطبيب صدمة بالغة عندما حذره من الاستمرار في تناول دواء سيليبركس، فالأبحاث الجديدة ربطت بينه وبين الأزمات القلبية. اعتراه غضب عارم جاء من حيث لا يدري؛ هذا هو الدواء الوحيد الذي يريحه من آلام الظهر المزمنة، كيف يُمنع بهذه البساطة؟ وما البديل؟ يشعر بخيبته وقلة حيلته وهو يردد بينه وبين نفسه "ما البديل" بهلع يليق بمذيعي برامج التوك شو.
        مر على زينب في مكتبها، وبمجرد ظهوره في إطار بابها سألته عما به. حكى لها فنصحته باليوجا، وطبعت له من على الإنترنت تمرينات لتقوية عضلات الظهر، ولامته على عدم طلب تغيير كرسي المكتب من إدارة المشتريات كما نصحته من شهور، وذكرته بضرورة أن يجلس دائما بزاوية مستقيمة، و"افرد كتافك وانت قاعد، وافرد ضهرك وانت ماشي". في خمس دقائق، وهو مرتاح على الكرسى الوثير أمام مكتبها، مستمعا لموسيقى ناي عذب في الخلفية تنبعث من الكمبيوتر، حلت له كل مشاكله ووضعت له خطة علاج. يمزحان دائما حول الكرسي الوثير وميلها لتقديم النصائح والحلول، ويعرض عليها أن تأخذ "فيزيتا" بدلا من أن يدفعها للطبيب النفسي الذي زاره مرتين ثم اختلق مئات الأعذار ليتهرب منه.
        أنهى عمله وقام من المكتب متحاملا ومتفاجئا بهجمة الآلام على ظهره كالعادة بعد يوم عمل طويل قضاه جالسا. لبس حذائه الذي يحب أن يجلس على المكتب بدونه طوال اليوم، وجز على أسنانه وهو يحاول أن يحشر قدمه في الحذاء الذي أصبح ضيقا مع تورم قدميه على مدار اليوم. ركب سيارته وأخذ يعدل من وضع المخدة الطبية خلف ظهره، وهو يسب السايس الذي يغير ضبط الكرسي كلما أخذ السيارة ليركنها، ويقطم هو وسطه حتى يعيده للوضع السليم.
        في بطء متعمد أخذ يصعد الطوابق الأربعة وصولا لشقته، محاولا ألا يرهق ظهره. عند الطابق الثاني وصلته رائحة القلي. هي في المنزل إذن. أبطأ أكثر من خطواته. من لم يمت بالسيليبركس مات بغيره. يمكنه أن يستمر في تعاطيه كل يوم قبل النوم حتى يصاب بأزمة قلبية ويموت ويستريح للأبد من أوجاعه. باذنجان مقلي، وربما سمك. أو كلاهما، فهي لا ترى غضاضة في قلي أي شيء بعد أي شيء آخر. الله يرحمك يا أمه، انتي اللي عودتيني على إن كل أكل يتقلي في زيت لوحده.
        هي في المنزل إذن، فستحتل الكنبة السليمة الوحيدة في البيت بعد الغداء، وسيبقى له الكرسي ذو القاعدة الساقطة، أو الكنبة الهابطة الأخرى. لن يستطع أن يفرد ظهره على السرير، فهي دائما لديها طلبات منه فور عودته من العمل؛ لمبات يجب تغييرها، "سيفون" يجب إصلاحه، عيش للإفطار نسيت أن تطلبه من البواب وعليه أن ينزل ليحضره، "ولا مانفطرش بكره يعني؟". أحسن، فمرتبة السرير ذات السوست تؤلمه أثناء النوم أصلا.
        فتح باب الشقة فكاد أن يسقط على وجهه بعد أن تعثر في أكياس كثيرة ملقاة في المدخل. يا ربي، ما هذا الغباء؟ حاول أن يعلو صوته فوق ضجيج المسلسل التركي في التلفزيون وصراخ الطفل وصوت تخبيطها في المطبخ في سيمفونية تحضير الغداء، "سلامو عليكم!".
"اعمل الرضعة للواد! الأكل ع النار! بسرعة الواد جعان!".
كسوبرمان -بعد أن جار عليه الزمن- أخذ يخلع ملابسه بسرعة في المسافة من باب الشقة لغرفة ابنه، ليتحول من الموظف المطحون للزوج المسحول. حمل الولد وشرع في تهدئته بينما يسخن الماء للرضعة، وهو يتطلع حوله في أرجاء المطبخ. ساحة حرب، وكل هذا من أجل ما اتضح أنه سمك مقلي. الله يرحمك يا أمه، كيف كنتي تفعلينها؟ أطباق متنوعة شهية تكفي سبعة أشخاص بدون جعجعة ولا قعقعة ولا روائح مُقلقة. سأل عن مصدر السمك قالت إن أمها اشترته ونظفته وتبلته وأرسلته لها. ملكة متوجة والله.
        رضع الولد ونام، وجلسا ليتناولا السمك في صمت. وجود العيش على السفرة ملأه سعادة وامتنانا؛ مشوار لن يقوم به.
"وليد قال لي ما آخدش السيليبركس تاني، عملوا أبحاث عليه طلع مضر للقلب".
"إيه السيبيكس ده؟".
"الدوا المسكن اللي بآخده كل يوم . . . بتاع آلام الضهر ده".
تكمل المضغ لدقائق ثم تقول بعد تفكير: "خد اسبرين".
تجاهل الفكرة المتخلفة: "المشكلة إن مفيش كرسي واحد مريحني؛ لا كرسي المكتب في الشغل، ولا كرسي العربية، ولا الفوتيه ولا الكنبة هنا. حتى مرتبة السرير بتتعبني".
"ليه مالها الكنبة!".
كاد أن يقول: "ما إنتي مش حاسة بحاجة يا باردة علشان دايما محتكرة الكنبة السليمة"، لكنه دفن هذه الفكرة وتجاهل اعتراضها واستمر: "نفسي يزودوني زيادة عِدلة أول السنة، واشتري طقم انتريه جديد مريح".
"إيه! لأ! أنا قلت لو أخدت زيادة هنجيب طقم مُدهب! سنتين وأنا صابرة وراضية، لكن لأ، مش هكمل حياتي من غير طقم مُدهب!".
استدرك نفسه قبل أن تفلت من لسانه "ما تنزلي تشتغلي وتجيبي الطقم المدهب يا كنبة" وآثر السلامة. شغل نفسه بتفصيص السمك (بنكهة الباذنجان) والتركيز في الأكل، وأخذ يمني نفسه بأنه غدا سيمر على زينب في مكتبها وسيجلس أمامها في الكرسي الوثير، تحيط به رائحة اللافندر التي تحب أن ترشها في المكتب، وسيتناقشا في رواية "الحب في المنفى" التي اختاروها في نادي القصة بالشركة لهذا الشهر.
استغرق في اللحظة الجميلة حتى فوجئ بالسؤال: "بتضحك على إيه؟". نظر لها في ذهول كأنه يراها لأول مرة في حياته ثم لملم شتات نفسه سريعا: "إنتي عارفة إني بحب البتنجان".
"ده سمك".
"والسمك".

Sunday, November 22, 2015

الحمار المخطط الحائر

كان يا ما كان.. يا سعد يا إكرام.. ولا يحلا الكلام.. إلا بذكر النبي عليه أفضل الصلاة والسلام.
كان فيه حمار مخطط جميل.. جميل، لكن كان نفسه يبقى حصان. كان دايما بيقف بعيد على طرف الساحة اللي فيها السيرك، مستخبي تحت الشجرة الكبيرة وبيتفرج على الحصنة وهي بتدرب جوه. تمر عليه الساعات الطويلة وهو واقف في مكانه مسحور، ومرات يحاول يقلد حركاتهم. بقى عارف أساميهم وفقرة كل حصان منهم.
وفي يوم من الأيام، اتشجع  وقرر ينضم لهم. راح خبط على باب المدرب وقال له إنه عايزه يدربه علشان يقدم فقرة في السيرك. المدرب ضحك وقال: وأقول إيه للناس؛ ده حصان بس بهت في الغسيل؟ ولا لسه الدهان بتاعه مانشفش؟ انت حمار مخطط يا ابني، عيش عيشة أهلك؛ روح اجري في الغابة، اهرب من أسد ولا ارفس غزالة.
الحمار المخطط زعل لكن مايأسش. تاني يوم راح خبط على المدرب برضه. المدرب فتح الباب وجاله ذهول لما شاف قدامه شجرة على شكل حصان. لما اكتشف إن ده الحمار المخطط ضحك، ولما الحمار قال له: أنا هعمل فقرة الشجرة الراقصة، المدرب ضحك أكتر وطرده بالذوق.
الحمار المخطط زعل لكن مايأسش. تاني يوم راح خيط على المدرب، اللي زعق له المرة دي لما لقاه لازق ريش على جسمه كله وبيقول إنه هيعمل فقرة الفرخة الراقصة.
الحمار زعل لكن مايأسش. قعد يتمشى كتير في الغابة ويفكر؛ هل هو فعلا عايز يبقى حصان؟ هل هو عايز يبقى في السيرك؟ طيب هل هو عايز يرقص مع الحصنة؟ مممم.. مش متأكد أوي. هو عارف إنه زهق من حياة الغابة العبثية. هيبقى حمار مخطط، وبعدين؟ في يوم هياكله الأسد وهتخلص الحكاية.
وفي يوم افتتاح السيرك فوجيء الجمهور بالحمار المخطط داخل يجري بسرعة جدا وبيشوط كل حاجة، لحد ما شاط شبكة كلها كور ملونة. قعد يشوط الكور على الجمهور والجمهور يضحك، وعمال السيرك بيجروا في كل مكان بيحاولوا يلموا الكور ويقبضوا على الحمار المخطط.
وتاني يوم، كل جرايد البلد كانت بتتكلم عن مَولِد نجم جديد في السيرك.

Sunday, September 23, 2012

"متل الهوا اللي مبلش.. ع الخفيف"


هناك شيء في الخريف..

لا يأتي الخريف مقتحما عليك حياتك ويلطمك بلفحة ساخنة مثل الصيف.. ولكنه يأتي على مهله.. في تأنٍ يكاد يكون دلالا. لا يأتي فجأة كضيف لم تكن تتوقعه، تفتح الباب فيذهلك وجوده أمامك، ولكنه يأتي كواحد من أهل بيتك معه مفاتيحه، تستيقظ فتجده مسترخيا على كنبتك المفضلة، يقرأ رواية ما، وتجبرك النظرة المبتسمة والغمزة على أن تعمل فنجانين قهوة وتأتي لتجلس معه لتشربها في صمت حميم قبل بداية اليوم. تتنهد في ارتياح لأنه هنا أخيرا بعد أن كنت قد قلقت عليه، فأنت تتوق لنسمة منه طوال أغسطس الخانق. ولكنه ارتياح مشوب بالتوجس، فأنت تعرف ما يفعله الخريف وبعده الشتاء في مزاجك، وتخشى غياب الشمس وتلبد السماء. ولكنه هنا.. الخريف.. شخصيا.. بنسماته اللعوب وإضاءته الأخف.

بعد أن كانت رائحة الفل والياسمين تطاردنا عند كل مطب وإشارة مرور طوال الصيف، تختفي من حياتنا فجأة كما ظهرت فجأة، ويحل محلها الورد البلدي، برائحته الرزينة الشقية، التي تهمس لك بأن كل شيء ممكن، حتى في الخريف. كل أغاني الصيف الراقصة التي سمعناها بأعلى صوت وشبابيك السيارة مفتوحة، تخفت لتصبح موسيقى خلفية لذكرياتك عن هذا الصيف، وتشعر بحاجة ملحة لسماع أغنيات مثل "ولا كيف" أو "بالمظبوط" أو "ميكس" من فيروز وأزنافور وأغانٍ لا حصر لها من "الجاز". بعد أن قضيت الصيف في الهرولة، بين بيوت الأصدقاء، بين الشواطئ، بين الخروجات، بين المشاوير، يأخذك الخريف من يدك ويجلسك وينظر في عينيك ويسألك: "والآن.. ماذا تريد أن تفعل بحياتك؟"، فتبطأ خطواتك وتسترسل أفكارك ويأخذ كل شيء وقته الجميل.

تتزحزح الليمونادة المثلجة من مكانها وتتركه للقرفة بالحليب الساخنة، ويصبح النسكافيه مكروها والقهوة التركي فرضا. الآيس كريم سيأخذ وقتا أطول ليذوب، وتستطيع أن تخبز كيكة تأكلها بجانبه، هي باردة من الخارج ساخنة من الداخل، وهو ساخن من الخارج مثلج من الداخل.. الجمال في قضمة. وبعد أن ظللت أسير الشبابيك الموصدة والتكييف سجانك، يمكنك الآن أن تعود لكرسيك المفضل تحت الشباك الذي يهب عليه النسيم الوديع. والشمس التي تفاديتها لشهور طويلة وفعلت كل شيء حتى لا تلمحك، تراها الآن تختلس النظر من وراء الستائر الثقيلة، فتفتحهم على آخرهم وتدعوها للدخول قابلا اعتذارها. الأصفر ذو المزاج المتقلب والفوشيا قليل الحياء يأخذان مكانا قصيا في دولابك، ويسيطر عليك الأحمر بغوايته والبني بدفئه، وتشعر بحاجة ملحة لشراء قميص أبيض وحذاء غالبا سيكون أسود.

وندرك معنى وجود الخريف في حياتنا، وأثره عليها، فنبدأ في أكل كل ما نجده من المانجو، نأكلها ونشربها ونخزنها في الفريزر استعدادا لشتاء طويل من الجوافة السمجة، مانجو لم يتسن لنا أن نأكلها في الصيف لأننا كنا نهرول. الآن وفي آخر الموسم نتلذذ بها فعلا، نتذكر الأنواع التي نحبها ونتمرمغ فيها حتى تصفر أظافرنا وتصاحبنا هالة من رائحة المانجو تفاجئنا كلما حركنا يدينا أمام وجهنا.

يأتي الخريف، فيصبح كل شيء على أهبة الاستعداد، الأقلام الرصاص المبرية وورق الكراسات الخاوية والساندوتشات الفينو؛ كله في الانتظار، يريد أن يبدأ، يريد أن يُملأ، يريد أن يُلتهم. تخلو الشوارع، ويهدأ الجيران، ولا صوت يعلو فوق صوت أفكارك، فكل الأفكار التي تفاديتها شتاءً وربيعا وصيفا، تجلس الآن، في الشمس الناعمة، على سور شباكك، تزقزق وتناديك، تتأملك برأس مائلة وحاجب مرفوع وكأنها تقول لك: "ها؟".

"القصة مش طقس يا حبيبي".. لكني أحب الخريف لأنه أخذني إليك، بجوه الذي ارتبط عندي بهذه الكهرباء اللذيذة التي تسري فيّ بقربك، خريف مشحون بالاحتمالات والأمنيات، وشتاء دافئ.. دافئ.. دافئ.. فيه يدي لا تفارق يديك، وأمسيات طويلة تمر سريعا في نزهات على الأقدام في شوارع أصبحت أقاربنا، وكلام هامس، ونظرات صاخبة.

مع الخريف أستطيع أخيرا أن أدخل غرفة المكتب وأفتح شباكها وأهويها بعد أن قامت في الصيف بدور المخزن/الفرن/مصيدة التراب. أرص الكتب التي اكتنزتها طوال الصيف في رفوفها، وأضع كل الأوراق المكومة على المكتب في ملفاتها. أمسح المكتب جيدا، وأُخرج شموعا برائحة التفاح والقرفة والبسكويت المخبوز. يدق قلبي بسرعة وتنمل أصابعي ولكني أجلس على المكتب.. وأكتب :)

* عنوان التدوينة مأخوذ من أغنية "ولا كيف" لفيروز. 

Monday, September 17, 2012

اعترافات أم



أهدتنا دعاء نوتة مبتكرة، نوتة يمكنك فيها كتابة سطر واحد فقط كل يوم.. لمدة خمس سنوات. في أعلى كل صفحة مكتوب اسم الشهر وتاريخ اليوم، وهناك خمس خانات في الصفحة مكتوب فيهم "20" لتكتب بجوارهم تاريخ السنة. أحببت الفكرة جدا، وأخذت أفكر في ما سأكتبه لشريف ويقرأه عندما يستطيع القراءة.

ثم بدأت الكتابة في النوتة وأرقتني الأفكار.. ككل الأفكار المتعلقة بشريف؛ فكل شيء أفعله أشعر أنه سيكون له أثر فادح على مسار حياته لا يمكن محوه أو تغييره. (لديه بعض القشور على فروة رأسه، فحككتها وأزلتها بأظافري. هل سيصيبه هذا بالصلع المبكر؟ الخ.. إلى ما لا نهاية!) هل سيهتم شريف بأن يقرأ أنه في يوم كذا كان عنده مغص؟ هل وهو في العاشرة مثلا سيحب أن يعرف أنه كان يبتسم في سعادة ويقول: "آااااه ممممم" بعد أن ينجح في إخراج الغازات وهو في شهره الثاني؟ ماذا سيشعر عندما يقرأ أن في عيد ميلاد والده ذهبنا للعشاء في مطعم هادئ وفاخر ومريح للأعصاب، فأخذ يبكي من اللحظة التي جلسنا فيها على المائدة وحتى رجعنا للمنزل، وأننا تناوبنا على حمله والسير به في ردهات المطعم حتى يهدأ أو ينام، فيعود كل مرة من جولته بعيون مفنجلة ويبكي عندما نجلس به؟ ماذا سيقول عليّ عندما يجد أنني ليومين متتاليين كتبت عن سعادتي بأنه أصبح يلبس مقاسا أكبر من الحفاضات؟ هل سيريد أن يقرأ كلام مثل "متهيألي إنك بتغير لما بازغزغك من تحت باطك"؟

وهل أكتب عن الأحداث السعيدة فقط أم أذكر التعيسة أيضا؟ هل أعترف أنني لسعت ساقه وأنا أشطفه عندما لم أنتبه أن الحنفية ساخنة؟ هل أكتب عن تلك المرة التي نمت وأنا أرضعه واستيقظت فجأة في منتصف الليل على أصوات خنفرة تصدر منه وهو متدلٍ من ذراعي "زرع بصل"؟ هل أحكي له أننا في أسبوعه الأول بكيت لأننا فشلنا في استخراج المخاط من أنفه ووضع القطرة بها، وشعرنا أننا نؤذيه وأننا لا نصلح كوالدين؟ هل أستطيع أن أكتب له أنني –وهو عنده ثلاثة أيام- تركته لأبيه ليأخذه للتطعيم وجلست في السيارة منهارة في البكاء لأني في غاية الإجهاد والألم ولا أعرف ماذا أفعل بهذا الرضيع الضعيف المعتمد عليّ والواثق فيّ كليا؟ لن أكتب هذا، بل سأكتب عن التطعيم الذي تلاه، فلقد صرخ وبكى والحقنة تلو الأخرى تنغرز في ذراعه وأرجله المنمنة، ولكن عندما حملته وابتسمت له ابتسم لي وهو يغالب دموعه.. وتفتت قلبي لآلاف الفتافيت.

كل ما أرجوه هو أن عندما يقرأ شريف هذه النوتة يدرك شيء واحد فقط، أهم شيء يجب عليه أن يعرفه: حبنا الكبير له وفخرنا به في كل صغيرة (قبل الكبيرة) فعلها في سنواته الخمس الأولى. وأتمنى أن يغفر لنا إخفاقاتنا ويضحك على بلاهتنا :)