Sunday, October 14, 2007

على بياض




الصفحة البيضاء هي الموت، هي قبري الذي ينتظرني. افتحها وانظر فيها فتحدق هي فيّ، ويكون علىّ أن أرمي فيها بنفسي، أو بأي شيء آخر فداًء لي. أشق أطراف أصابعي، شقوق صغيرة، لعل الكلام ينسال منها ببساطة، ولكن البوح يستعصى على التبسيط.

أفكر: إذا أملت رأسي هكذا قد تأتي الكتابة، أو إذا شربت زجاجة مكتوب عليها "المُر"، أو إذا تنفست هواًء نظيفًا، أو إذا جلست وحدي بعض الوقت، أو إذا مشيت تجاه الحائط مباشرة وخبطت رأسي فيه. ولكن لعنتي هي أن الكتابة لا تأتي مع ميل في الرأس أو هواء في الرئة، بل تأتي وأنا متعبة للغاية، وأنا نائمة، وأنا ينتظرني الكثير من الغسيل، وأنا أقود لمسافة طويلة وبجواري يجلس حوار مُجْهِـد.

الصفحة البيضاء هي النداهة: تهمس من بعيد، فأترك كل شيء وأتبعها؛ أقوم من النوم، أترك حوار في منتصفه، أنظر دون أن أرى، أفتعل تعبيرات بوجهي دون أن أسمع أي شيء مما قيل، وتنغلق كل حواسي وأسير بالدفع الذاتي.

لا أستطيع أبدًا أن أفتح صفحة بيضاء وأجلس أمامها في انتظار الكتابة. ولكن تأتيني كلمة، فأُمسك بمقشة كبيرة وأكنس دماغي من الداخل جيدًا، ثم اغسلها من فوقها لتحتها بماء بارد والكثير من الصابون برائحة اللافندر، ثم اجففها، وأُفسح المجال لتلك الكلمة لتأخذ أي شكل تريده. من هذه اللحظة لا تصبح دماغي فوق رأسي، ولا أستطيع أن أتحكم فيها، ولا حتى أن أتذرع بهرشها لأتأكد من أنها مازالت هناك، أعلى رقبتي.

يمكنني في أي وقت أن أغمض عيني، فأرى دماغي وكأنها جهاز صُنع غزل البنات: تضع السكر في منتصفه، وتضع العصا الصغيرة في الجهاز وتديره. يسخن الجهاز، وتتجمع حول العصا خيوط رفيعة من الغزل، وتظل العصا تلف وتدور، والغزل يكبر ويكبر، وهناك طفل يبكي لأنه يريد غزل البنات الآن.. فورًا، وآخر لا يريد أن تكون له أية علاقة بكل هذا اللف والدوران. لا تتوقف دماغي عن الدوران أبدًا. يتجمع الغزل ويملأ زوايا وأركان دماغي، بل يتجمع ويتجمع ويغطي أثاث دماغي، وكل أجهزته الكهربائية. وأجدني، في المرة التالية التي تأتيني فيها كلمة، أغرق في كل هذا الكم من غزل البنات، ويكون علىّ، في كل مرة، أن أبدأ من البداية لأفك كل هذه الخيوط.

الصفحة البيضاء هي الاحتمالات اللامتناهية، هي الشاسع والمطلق والرحِب..

.. ويكمن فيها أيضًا احتمال الخرس. تصبح الصفحة البيضاء عندها موت هزلي، غير بطولي بالمرة، ونهاية لحياة ماسخة مرت دون أن يلاحظها أحد، ولا حتى صاحبتها. تصبح الصفحة نقطة في نهاية جملة العَيْش.

غزل البنات..

سكر نبات..

تبات ونبات..

صبيان وبنات..

لكن – في الواقع – أبوك السقا.. مات.

* الصورة إهداء خاص من يسرا