Sunday, April 27, 2008

ناصية منتصف العمر



عند ناصية شارع منتصف العمر وقفت وفردت جناحيها وصهلت بأعلى صوت: "أنا حصان أبيض.. بقرن واحد وجناحين. أنا كأس أحلامك، وفنجان واقعك. وأنا -بشكل أساسي- رائحة القرفة التي تعلقت بكل حبال أفكارك".

* * * *

قبل هذا بمئات السنوات الضوئية، عندما كان طريق عملها يمر بالمقابر، سمعت يومًا صوتًا يغني من خلف السور. استعاذت وتفلت في صدرها ثلاث وأسرعت مبتعدة. في اليوم التالي عندما سمعت الغناء تمهلت لوقت كافٍ لتميز إنه صوت رجل. وفي اليوم الثالث لملمت أطراف تنورتها الطويلة ذات الأجراس الصغيرة وتسلقت السور ونزلت في الجهة الأخرى.

كان جالسًا على قبر، يؤرجح ساقيه ويغني: "وسيبني أحلم سيبني.. يا ريت زماني ما يصحنيش". جلست بجواره في هدوء وانتظرت حتى انتهى من الوصلة، ثم مع بداية الكوبليه التالي صاحبته. بعد أن انتهيا جلسا في صمت، ثم سألته إذا ما كان هذا قبره فأجاب بنعم، فطلبت منه أن يقرأ لها المكتوب على الشاهد لأنها لا تستطيع قراءة الكتابات الحزينة، فوقف على القبر وأعلن: "هنا يرقد من عشق الحياة، فقتلته"، فقامت هي وتسلقت سور المقابر، وببطء شديد شرعت في الرقص.

* * * * *

بعد هذا بمئات السنوات الضوئية سألته ماذا يفعل عندما يستيقظ قبلها، قال إنه فقط يجلس هنا منتظرًا استيقاظها، ويحملق في النافذة الموصدة متأملاً في قسوة الحياة. سألته لماذا يستيقظ قبلها من الأساس، قال إنه يريد أن يحرس نهايات لياليها ليضمن بدايات نهاراتها، وعلى أي حال هو لا يعرف كيف يبدأ النهار بدونها، فهي عندما تستيقظ تبدأ الحياة، فتَحْت وسادتها كل أدوات إعادة صياغة العالم.

تقول إنها في يوم من الأيام ستستيقظ مبكرة جدًا، أبكر منه. ستتسلل من السرير وتُخرج من صدرها ألوانها المحببة، وترسم على زجاج النافذة الموصدة عشرات الزهور ذات الشخصيات المختلفة، وشجرة تتمتع بروح الدعابة، وسُحب مدملكة، وشمس كبيرة بأشعة تصل إلى قلبه. قالت إنها على حافة النافذة ستزرع الريحان والنعناع.

يستمع إليها مبتسمًا (ومفزوعا من مقدار حبه لها). بهدوء، يحملها ويُجلسها على حافة النافذة ويقول بشكل قاطع: "إنتي ريحانتي، ونعناعة عمري".

وهكذا – تُكمل كلامها بجدية من على حافة النافذة – فعندما يستيقظ سيرى العالم من خلال ألوانها هي، ولن يضطر أبدًا للتفكير مرة أخرى في قسوة هذه الحياة.

* * * * *

إذا كان الأمر قد اقتصر على ثرثرة عصافيرها الملونة بعد شروق الشمس وقبل غروبها، لكان قد احتمل. ولكن ما غاظه فعلا وفجَّر الخلافات بينهما هو حواراتها المستمرة معهم طوال اليوم؛ فأحيانًا يبحث عنها في البيت كله بلا جدوى، حتى يشير عليه عقله بأن يتفقد الشرفة، وهناك يراها: تتحدث فيغردون، وتغرد فيتحدثون. يستطيع بضمير مستريح الاعتراف بأنه يغير من تلك العصافير التافهة (والتي اشتراها لها). في لحظة هوجاء، نسى أن بإمكانه التحدث معها؛ كان كل ما يسيطر عليه هو عدم قدرته على التغريد، والألم المصاحب لاحتباس الأغاني في القصبة الهوائية.

في الصباح التالي، قال إنه ما عاد يطيق جنونها وتقلباتها وعصافيرها، فطلبت منه أن يخفض صوته كي تعود للنوم. في المساء رمت كل هداياه من فوق سطح المبنى المجاور (لأنه أعلى من مبناها) وتركت له البيت، فقال إن هذه كانت أسوأ هداياه على أي حال وأنه بحاجة للهدوء.

* * * *

تمل الوقوف عند الناصية، فتقرر الاستعانة بقطط الشارع، فتجندهم بغمس أطراف ذيولهم في اللون البرتقالي، وتعطيهم جميعا الاسم الحركي "فجلة". في عجالة، تشرح لهم مهمتهم، وتشد على أيديهم، وتتمنى لهم التوفيق.

أصبح كلما نزل إلى الشارع أو فتح باب الشقة ليأخذ الجريدة، أو يُخرج القمامة، يظهر له فجلة بذيله البرتقالي، فيتمسح في رجله ويموء مواء حكيم لحوح يحاول أن يشرح له ما استغلق عليه من حقائق الحياة.

* * * * *

يزيح الستار السميك جانبا، والذي ركبه خصيصا ليحجب رسوماتها اللعوب على زجاج النافذة الموصدة، لأنها لا تكف عن الغمز له وتلعيب حواجبها كلما رأته وحيدا.

يتفقد الشارع ليرى إذا كانت مازالت هناك، فيراها، وقد تعبت من الوقوف، فاقترضت مقعد خشبي صغير من محل العصير المجاور، وطلبت كوبًا كبيرًا من عصير القصب.

تميل رأسها للوراء لتأتي على آخر قطرات القصب، فتلتقي عيونهما. يبتسمان، بخجلهما وشقاوتهما المعتادين. من النافذة، يدلي لها بدلوه، فتركب فيه. في سرية شديدة، وقبل أن يصل الدلو لنافذته، تُخرج مرآتها لتطمئن على أن شعرها مازال ثائرا، وأجنحتها مازالت مهندمة، وتنظر في حقيبتها لتتأكد من وجود متسع لمزيد من الجنون.