Sunday, September 23, 2012

"متل الهوا اللي مبلش.. ع الخفيف"


هناك شيء في الخريف..

لا يأتي الخريف مقتحما عليك حياتك ويلطمك بلفحة ساخنة مثل الصيف.. ولكنه يأتي على مهله.. في تأنٍ يكاد يكون دلالا. لا يأتي فجأة كضيف لم تكن تتوقعه، تفتح الباب فيذهلك وجوده أمامك، ولكنه يأتي كواحد من أهل بيتك معه مفاتيحه، تستيقظ فتجده مسترخيا على كنبتك المفضلة، يقرأ رواية ما، وتجبرك النظرة المبتسمة والغمزة على أن تعمل فنجانين قهوة وتأتي لتجلس معه لتشربها في صمت حميم قبل بداية اليوم. تتنهد في ارتياح لأنه هنا أخيرا بعد أن كنت قد قلقت عليه، فأنت تتوق لنسمة منه طوال أغسطس الخانق. ولكنه ارتياح مشوب بالتوجس، فأنت تعرف ما يفعله الخريف وبعده الشتاء في مزاجك، وتخشى غياب الشمس وتلبد السماء. ولكنه هنا.. الخريف.. شخصيا.. بنسماته اللعوب وإضاءته الأخف.

بعد أن كانت رائحة الفل والياسمين تطاردنا عند كل مطب وإشارة مرور طوال الصيف، تختفي من حياتنا فجأة كما ظهرت فجأة، ويحل محلها الورد البلدي، برائحته الرزينة الشقية، التي تهمس لك بأن كل شيء ممكن، حتى في الخريف. كل أغاني الصيف الراقصة التي سمعناها بأعلى صوت وشبابيك السيارة مفتوحة، تخفت لتصبح موسيقى خلفية لذكرياتك عن هذا الصيف، وتشعر بحاجة ملحة لسماع أغنيات مثل "ولا كيف" أو "بالمظبوط" أو "ميكس" من فيروز وأزنافور وأغانٍ لا حصر لها من "الجاز". بعد أن قضيت الصيف في الهرولة، بين بيوت الأصدقاء، بين الشواطئ، بين الخروجات، بين المشاوير، يأخذك الخريف من يدك ويجلسك وينظر في عينيك ويسألك: "والآن.. ماذا تريد أن تفعل بحياتك؟"، فتبطأ خطواتك وتسترسل أفكارك ويأخذ كل شيء وقته الجميل.

تتزحزح الليمونادة المثلجة من مكانها وتتركه للقرفة بالحليب الساخنة، ويصبح النسكافيه مكروها والقهوة التركي فرضا. الآيس كريم سيأخذ وقتا أطول ليذوب، وتستطيع أن تخبز كيكة تأكلها بجانبه، هي باردة من الخارج ساخنة من الداخل، وهو ساخن من الخارج مثلج من الداخل.. الجمال في قضمة. وبعد أن ظللت أسير الشبابيك الموصدة والتكييف سجانك، يمكنك الآن أن تعود لكرسيك المفضل تحت الشباك الذي يهب عليه النسيم الوديع. والشمس التي تفاديتها لشهور طويلة وفعلت كل شيء حتى لا تلمحك، تراها الآن تختلس النظر من وراء الستائر الثقيلة، فتفتحهم على آخرهم وتدعوها للدخول قابلا اعتذارها. الأصفر ذو المزاج المتقلب والفوشيا قليل الحياء يأخذان مكانا قصيا في دولابك، ويسيطر عليك الأحمر بغوايته والبني بدفئه، وتشعر بحاجة ملحة لشراء قميص أبيض وحذاء غالبا سيكون أسود.

وندرك معنى وجود الخريف في حياتنا، وأثره عليها، فنبدأ في أكل كل ما نجده من المانجو، نأكلها ونشربها ونخزنها في الفريزر استعدادا لشتاء طويل من الجوافة السمجة، مانجو لم يتسن لنا أن نأكلها في الصيف لأننا كنا نهرول. الآن وفي آخر الموسم نتلذذ بها فعلا، نتذكر الأنواع التي نحبها ونتمرمغ فيها حتى تصفر أظافرنا وتصاحبنا هالة من رائحة المانجو تفاجئنا كلما حركنا يدينا أمام وجهنا.

يأتي الخريف، فيصبح كل شيء على أهبة الاستعداد، الأقلام الرصاص المبرية وورق الكراسات الخاوية والساندوتشات الفينو؛ كله في الانتظار، يريد أن يبدأ، يريد أن يُملأ، يريد أن يُلتهم. تخلو الشوارع، ويهدأ الجيران، ولا صوت يعلو فوق صوت أفكارك، فكل الأفكار التي تفاديتها شتاءً وربيعا وصيفا، تجلس الآن، في الشمس الناعمة، على سور شباكك، تزقزق وتناديك، تتأملك برأس مائلة وحاجب مرفوع وكأنها تقول لك: "ها؟".

"القصة مش طقس يا حبيبي".. لكني أحب الخريف لأنه أخذني إليك، بجوه الذي ارتبط عندي بهذه الكهرباء اللذيذة التي تسري فيّ بقربك، خريف مشحون بالاحتمالات والأمنيات، وشتاء دافئ.. دافئ.. دافئ.. فيه يدي لا تفارق يديك، وأمسيات طويلة تمر سريعا في نزهات على الأقدام في شوارع أصبحت أقاربنا، وكلام هامس، ونظرات صاخبة.

مع الخريف أستطيع أخيرا أن أدخل غرفة المكتب وأفتح شباكها وأهويها بعد أن قامت في الصيف بدور المخزن/الفرن/مصيدة التراب. أرص الكتب التي اكتنزتها طوال الصيف في رفوفها، وأضع كل الأوراق المكومة على المكتب في ملفاتها. أمسح المكتب جيدا، وأُخرج شموعا برائحة التفاح والقرفة والبسكويت المخبوز. يدق قلبي بسرعة وتنمل أصابعي ولكني أجلس على المكتب.. وأكتب :)

* عنوان التدوينة مأخوذ من أغنية "ولا كيف" لفيروز. 

Monday, September 17, 2012

اعترافات أم



أهدتنا دعاء نوتة مبتكرة، نوتة يمكنك فيها كتابة سطر واحد فقط كل يوم.. لمدة خمس سنوات. في أعلى كل صفحة مكتوب اسم الشهر وتاريخ اليوم، وهناك خمس خانات في الصفحة مكتوب فيهم "20" لتكتب بجوارهم تاريخ السنة. أحببت الفكرة جدا، وأخذت أفكر في ما سأكتبه لشريف ويقرأه عندما يستطيع القراءة.

ثم بدأت الكتابة في النوتة وأرقتني الأفكار.. ككل الأفكار المتعلقة بشريف؛ فكل شيء أفعله أشعر أنه سيكون له أثر فادح على مسار حياته لا يمكن محوه أو تغييره. (لديه بعض القشور على فروة رأسه، فحككتها وأزلتها بأظافري. هل سيصيبه هذا بالصلع المبكر؟ الخ.. إلى ما لا نهاية!) هل سيهتم شريف بأن يقرأ أنه في يوم كذا كان عنده مغص؟ هل وهو في العاشرة مثلا سيحب أن يعرف أنه كان يبتسم في سعادة ويقول: "آااااه ممممم" بعد أن ينجح في إخراج الغازات وهو في شهره الثاني؟ ماذا سيشعر عندما يقرأ أن في عيد ميلاد والده ذهبنا للعشاء في مطعم هادئ وفاخر ومريح للأعصاب، فأخذ يبكي من اللحظة التي جلسنا فيها على المائدة وحتى رجعنا للمنزل، وأننا تناوبنا على حمله والسير به في ردهات المطعم حتى يهدأ أو ينام، فيعود كل مرة من جولته بعيون مفنجلة ويبكي عندما نجلس به؟ ماذا سيقول عليّ عندما يجد أنني ليومين متتاليين كتبت عن سعادتي بأنه أصبح يلبس مقاسا أكبر من الحفاضات؟ هل سيريد أن يقرأ كلام مثل "متهيألي إنك بتغير لما بازغزغك من تحت باطك"؟

وهل أكتب عن الأحداث السعيدة فقط أم أذكر التعيسة أيضا؟ هل أعترف أنني لسعت ساقه وأنا أشطفه عندما لم أنتبه أن الحنفية ساخنة؟ هل أكتب عن تلك المرة التي نمت وأنا أرضعه واستيقظت فجأة في منتصف الليل على أصوات خنفرة تصدر منه وهو متدلٍ من ذراعي "زرع بصل"؟ هل أحكي له أننا في أسبوعه الأول بكيت لأننا فشلنا في استخراج المخاط من أنفه ووضع القطرة بها، وشعرنا أننا نؤذيه وأننا لا نصلح كوالدين؟ هل أستطيع أن أكتب له أنني –وهو عنده ثلاثة أيام- تركته لأبيه ليأخذه للتطعيم وجلست في السيارة منهارة في البكاء لأني في غاية الإجهاد والألم ولا أعرف ماذا أفعل بهذا الرضيع الضعيف المعتمد عليّ والواثق فيّ كليا؟ لن أكتب هذا، بل سأكتب عن التطعيم الذي تلاه، فلقد صرخ وبكى والحقنة تلو الأخرى تنغرز في ذراعه وأرجله المنمنة، ولكن عندما حملته وابتسمت له ابتسم لي وهو يغالب دموعه.. وتفتت قلبي لآلاف الفتافيت.

كل ما أرجوه هو أن عندما يقرأ شريف هذه النوتة يدرك شيء واحد فقط، أهم شيء يجب عليه أن يعرفه: حبنا الكبير له وفخرنا به في كل صغيرة (قبل الكبيرة) فعلها في سنواته الخمس الأولى. وأتمنى أن يغفر لنا إخفاقاتنا ويضحك على بلاهتنا :)