Thursday, June 30, 2005

الدفء


يباغتني البكاء بوقاحة، ولأني لم أكن مستعدة، استسلمت بغيظ. أبدأ في البكاء وأنا في السيارة، عائدة للمنزل بعد يوم عمل طويل وبارد...بارد. تفاجئني غزارة الدموع. لا أعرف ماذا أفعل بنفسي. أخشى أن أغرق في سيارتي. لا أبكي فحسب، بل انتحب بصوت عالٍ. أرى نفسي من خارج الإطار: فتاة تبكي وتعلو سيارتها الصغيرة بالونة بها "إهيء...إهيء" كقصص الأطفال المصورة. صورة باعثة للشفقة. أبكي أكثر. ‏

أفكر في خياراتي: لا أريد أن أعود للمنزل على هذه الهيئة، ستُذعر أمي. أقرر أن أقود بلا هدف لبعض الوقت. تزعجني نظرات ركاب السيارات المجاورة. أقرر أن اتجه للطريق السريع. أقود لمدة خمس دقائق، ثم يعود إلَى إدراكي السليم شيئاً فشيئاً، فأُدرك أن قيادتي وحدي في الليل على الطريق السريع ليست بالتصرف الحكيم. أخشى أن تتعطل سيارتي أو يضايقني أحد سائقي الشاحنات الكثيرة التي تحيط بي. أرى نفسي كتكوت مبتل وتائه وسط قطيع من الأبقار. أبكي أكثر. أسلك أول مخرج وأعود للمدينة. أنا في الأساس ضد القيادة بلا هدف.‏

ماذا أفعل الآن؟ البكاء لا يريد أن يتوقف. تخطر على بالي فكرة تأجير غرفة في فندق مجاور. ولكن ماذا سيقول العاملون بالفندق إذا سمعوا أصوات بكائي من خلف باب الغرفة؟ سيظنون أن أحداً يضربني أو في أحسن الأحوال سيظنونني مجنونة. تفاصيل...تفاصيل...والمزيد من التفاصيل العبثية. أنا بردانة...بردانة جداً. أين يمكنني أن أبكي بدون إزعاج؟ السينما؟ أتفقد الساعة فأجدها تجاوزت العاشرة مساءً. أين إذن؟ أفضل مكان للبكاء هو مكان كئيب أصلاً. ماذا عن المقابر؟ تنتابني رعشة وقشعريرة. صورة ذهنية واحدة للمقابر ليلاً في هذا الجو البارد صرفت الفكرة تماماً. ‏

تنقذني مكالمة هاتفية.‏

"إزيك!....إيه ده صوتك عامل كده ليه؟....بتعيطي؟! إيه اللي حصل؟....طيب إنتي فين؟...طيب أنا في بيتنا اللي هنا...هننزل نستناكي تحت البيت...ماتروحيش...ما تطنشيش...إحنا واقفين في الشارع اهوه..."‏

يتبقى لدىّ قليل من البكاء أفرغه في حضن صديقتي. مجرد وجودها مع زوجها صديقي في سيارتي الصغيرة يجعل الحياة أدفأ. تحاول أن تتكلم معي وأحاول أن أتكلم وسط بكائي. في المقعد الخلفي يجلس زوجها صامت تماماً يحاول أن يفهم. عندما يتكلم يقول إنه لا يستطيع أن يصدق أنني أبكي لأنه كلما يفكر فيّ يضحك. أدرك أنني لا أريد الكلام، فقط أريد أن أبكي. أرانا جميعاً من خارج الإطار: ثلاثة أشخاص بملابس ثقيلة مكدسون في سيارة صغيرة، بخار يتجمع على نافذة السيارة الأمامية، والفتاة التي تجلس في مقعد السائق تبكي وترسم على بخار أنفاسها مربعات ومكعبات.‏

بمكالمة قصيرة ولفة صغيرة من مقود السيارة انخفضت احتمالات إصابتي بالجنون، أو أن يضايقني أحد، أو أن يأخذ أحد المارة على عاتقه عبء حل مشاكلي أو إسداء أي نصيحة، أو أن يختطفني أحد، أو أن تهاجمني العفاريت، وانخفضت احتمالات أن أتجمد من البرد على قارعة الطريق. الدفء إحساس داخلي فعلاً. ‏

Friday, June 03, 2005

نظريتي اللغوية


لدى نظرية لغوية تتلخص في أن حروف الكلمات تعطي شكلاً لمعانيها وتعبر عنها. حاولت أن أعرض نظريتي على من احترم أرآئهم في اللغة، ولكنهم قالوا إنه مجرد ارتباط شرطي في عقلي بين معنى الكلمة وشكلها. لا بأس...شرطي شرطي! بعد سنوات من دراسة النظريات اللغوية الغامضة (والعقيمة في بعض الأحيان)، أصبح لدي نظرية لغوية خاصة بي وهذه فرصتي لأعرضها.

تأمل معي كلمة "دهشة". تبدو لي الهاء ونقاط الشين كحاجبين مرفوعين لشخص مندهش. وحتى التاء المربوطة (عادةً تنطق هاء) تبدو لي هنا وكأنها شخص يقول: "هه؟!" باستغراب ودهشة...هه...هه.

وكلمة "ذهول". الذال مرتبكة كشخص يحاول أن يجد الكلمات وسط ذهوله. والهاء هنا تأخذ شكل عينين مفتوحتين تبرقان. والواو بالتأكيد فم مفتوح نسى صاحبه في غمرة ذهوله أن يغلقه. واللام خاطفة ولكنها طويلة، كالوقت. هل لاحظت أنه غالباً ما تشعر بالزمن طويلاً عندما تكون مذهولاً؟

أما كلمة "غضب" فهي مثالي المفضل. تأمل الغين: شكلها يبدو لي كالزمجرة...غغغغغغ...تمهل في نطقها بصوت عالٍ. أما الضاد فهي تشبه تقطيب الغاضب وتجهمه. والباء نهائية، مقتضبة وحاسمة، كشخص يزم شفتيه بعد ثورة غضب...ببببب.

وخذ مثلاً كلمة "احتلال": فيها أربعة حروف تكتب عمودية. تبدو لي الألف واللام هنا كالبنادق، كالأسوار، كالأيام السوداء التي تأتي عليك قطعة قطعة، كالليالي الطويلة التي يقضيها المقهور في الانتظار وبناء الأمل تلو الأمل، والحاء وضيعة وخسيسة ومتسللة، والتاء صادمة كلحظة اكتشاف الخيانة.

وكلمة "وطن" واوها يد تمتد لك لتحتضنك (أو تقرصك من أذنيك أو حتى تصفعك). والطاء طين وطمي تزرعه ليعطيك (أو تغوص قدمك فيه فلا تقوى على الحركة وتلبث في مكانك سنوات). والنون نيل، رقراق ورائق (أو ملبد وهائج). والوطن مكان وزمان. تسمع اسمه فترى صور صغيرة جميلة (أو صغيرة قبيحة). تسمع اسمه فتتذكر (ذكريات في الماضي أو في المستقبل). تسمع اسمه فتبكي وتضحك وتجد نفسك مندفعاً بسرعة لحافة الجنون. تسمع اسمه فتركض وتركض لتصل للنهاية، فإما تقفز وترتفع لتتحول لنجمة تضيء الطريق، أو تقفز وتسقط وتتهشم وتتحول إلى كيان مَنسي آخر يضاف إلى آلاف الأشلاء التي لا يعبأ بها أحد.

أضع "الوطن" و"المحتل" بجوار بعضهما. اقرأ: "الوطن المحتل". يستحضر عقلي فوراً حكايات الأسرى واللاجئين. أرى المستوطنات نظيفة وأنيقة، وأرى الخيام تبدو دائماً وكأنها ستنهار في هذه اللحظة بالذات. أرى الجدار العازل والأسلاك الشائكة والأطفال يجعلون من الجدار مرمى لكرتهم. أرى السيدة الفلسطينية التي تحكي عن أرضها التي بُني عليها الجدار. أرى اليوسفي يكاد أن يعطب في صناديقه عند بوابات الحراسة، وأشجار الزيتون المخلوعة من جذورها. أرى الأمهات والآباء، من أوصل الرسالة ومن لم يوصلها. استحضر حكايات المعتقَلين والفاسدين، المجني عليهم والجناة، المفعول بهم والفاعلين. أرى طريق صحراوي طويل في آخره ليمان طرة في يوم حار ومترب وأحمر. أرى سيدة تمضي وقتها في الطهي لابنها وعندما تذهب لتراه في المعتقل لا يسمحون لها...لعاشر مرة. أرى أب في الشارع يمشي بصورة ابنه الذي لم يره منذ سنوات، يحكي حكايته ويستمر في السير يجر خلفه صوته المكسور. أرى النخيل على ضفاف النيل في أسيوط. أرى السيدة التي تنام تحت الكوبري، لسنوات، حتى لم أعد أدري أين تنتهي السيدة ويبدأ سور الكوبري. أرى تلك السيدة التي نجحت في محو أمية رجال قريتها. أرى طفل بوجه متسخ على عربة قمامة يبتسم لي في لقطة تكاد تكون جزء من حلم لجماله وجمالها. أرى السيدة الأخرى التي لا تملك في منزلها غير غسالة يدوية: تقف عليها وتقول لي إنها لا تستعمل ذلك المسحوق لأنه يهودي. أرى إعلانات لا حصر لها لهذا المسحوق. أرى رجل يمشي في الشارع لا يستره سوى بضعة عبوات ورقية مكتوب عليها "أسمنت مصر". أرى صديقتي وهي تحكي لي عن مزرعتهم التي كانوا يزرعون فيها القطن حتى تحول الأبيض إلى أحمر محترق بين ليلة وضحاها بعد المبيدات. أرى غاندي يغزل ويغزل. أرى الدهشة والذهول والغضب ثم الغضب ثم الغضب.

من حافظتي انزع قطعة قماش الحطة الفلسطينية التي احتفظ بها واضع علم مصر.