لدى نظرية لغوية تتلخص في أن حروف الكلمات تعطي شكلاً لمعانيها وتعبر عنها. حاولت أن أعرض نظريتي على من احترم أرآئهم في اللغة، ولكنهم قالوا إنه مجرد ارتباط شرطي في عقلي بين معنى الكلمة وشكلها. لا بأس...شرطي شرطي! بعد سنوات من دراسة النظريات اللغوية الغامضة (والعقيمة في بعض الأحيان)، أصبح لدي نظرية لغوية خاصة بي وهذه فرصتي لأعرضها.
تأمل معي كلمة "دهشة". تبدو لي الهاء ونقاط الشين كحاجبين مرفوعين لشخص مندهش. وحتى التاء المربوطة (عادةً تنطق هاء) تبدو لي هنا وكأنها شخص يقول: "هه؟!" باستغراب ودهشة...هه...هه.
وكلمة "ذهول". الذال مرتبكة كشخص يحاول أن يجد الكلمات وسط ذهوله. والهاء هنا تأخذ شكل عينين مفتوحتين تبرقان. والواو بالتأكيد فم مفتوح نسى صاحبه في غمرة ذهوله أن يغلقه. واللام خاطفة ولكنها طويلة، كالوقت. هل لاحظت أنه غالباً ما تشعر بالزمن طويلاً عندما تكون مذهولاً؟
أما كلمة "غضب" فهي مثالي المفضل. تأمل الغين: شكلها يبدو لي كالزمجرة...غغغغغغ...تمهل في نطقها بصوت عالٍ. أما الضاد فهي تشبه تقطيب الغاضب وتجهمه. والباء نهائية، مقتضبة وحاسمة، كشخص يزم شفتيه بعد ثورة غضب...ببببب.
وخذ مثلاً كلمة "احتلال": فيها أربعة حروف تكتب عمودية. تبدو لي الألف واللام هنا كالبنادق، كالأسوار، كالأيام السوداء التي تأتي عليك قطعة قطعة، كالليالي الطويلة التي يقضيها المقهور في الانتظار وبناء الأمل تلو الأمل، والحاء وضيعة وخسيسة ومتسللة، والتاء صادمة كلحظة اكتشاف الخيانة.
وكلمة "وطن" واوها يد تمتد لك لتحتضنك (أو تقرصك من أذنيك أو حتى تصفعك). والطاء طين وطمي تزرعه ليعطيك (أو تغوص قدمك فيه فلا تقوى على الحركة وتلبث في مكانك سنوات). والنون نيل، رقراق ورائق (أو ملبد وهائج). والوطن مكان وزمان. تسمع اسمه فترى صور صغيرة جميلة (أو صغيرة قبيحة). تسمع اسمه فتتذكر (ذكريات في الماضي أو في المستقبل). تسمع اسمه فتبكي وتضحك وتجد نفسك مندفعاً بسرعة لحافة الجنون. تسمع اسمه فتركض وتركض لتصل للنهاية، فإما تقفز وترتفع لتتحول لنجمة تضيء الطريق، أو تقفز وتسقط وتتهشم وتتحول إلى كيان مَنسي آخر يضاف إلى آلاف الأشلاء التي لا يعبأ بها أحد.
أضع "الوطن" و"المحتل" بجوار بعضهما. اقرأ: "الوطن المحتل". يستحضر عقلي فوراً حكايات الأسرى واللاجئين. أرى المستوطنات نظيفة وأنيقة، وأرى الخيام تبدو دائماً وكأنها ستنهار في هذه اللحظة بالذات. أرى الجدار العازل والأسلاك الشائكة والأطفال يجعلون من الجدار مرمى لكرتهم. أرى السيدة الفلسطينية التي تحكي عن أرضها التي بُني عليها الجدار. أرى اليوسفي يكاد أن يعطب في صناديقه عند بوابات الحراسة، وأشجار الزيتون المخلوعة من جذورها. أرى الأمهات والآباء، من أوصل الرسالة ومن لم يوصلها. استحضر حكايات المعتقَلين والفاسدين، المجني عليهم والجناة، المفعول بهم والفاعلين. أرى طريق صحراوي طويل في آخره ليمان طرة في يوم حار ومترب وأحمر. أرى سيدة تمضي وقتها في الطهي لابنها وعندما تذهب لتراه في المعتقل لا يسمحون لها...لعاشر مرة. أرى أب في الشارع يمشي بصورة ابنه الذي لم يره منذ سنوات، يحكي حكايته ويستمر في السير يجر خلفه صوته المكسور. أرى النخيل على ضفاف النيل في أسيوط. أرى السيدة التي تنام تحت الكوبري، لسنوات، حتى لم أعد أدري أين تنتهي السيدة ويبدأ سور الكوبري. أرى تلك السيدة التي نجحت في محو أمية رجال قريتها. أرى طفل بوجه متسخ على عربة قمامة يبتسم لي في لقطة تكاد تكون جزء من حلم لجماله وجمالها. أرى السيدة الأخرى التي لا تملك في منزلها غير غسالة يدوية: تقف عليها وتقول لي إنها لا تستعمل ذلك المسحوق لأنه يهودي. أرى إعلانات لا حصر لها لهذا المسحوق. أرى رجل يمشي في الشارع لا يستره سوى بضعة عبوات ورقية مكتوب عليها "أسمنت مصر". أرى صديقتي وهي تحكي لي عن مزرعتهم التي كانوا يزرعون فيها القطن حتى تحول الأبيض إلى أحمر محترق بين ليلة وضحاها بعد المبيدات. أرى غاندي يغزل ويغزل. أرى الدهشة والذهول والغضب ثم الغضب ثم الغضب.
من حافظتي انزع قطعة قماش الحطة الفلسطينية التي احتفظ بها واضع علم مصر.
غريب فعلا يا رحاب
ReplyDeleteأشعر منذ زمن بأن الحروف المرسومة تحمل صورا تعبر عن الكلمة
كلمة ذهول تبدو لي فاغرة فاها
و كلمة نشوة تبدو مغلقة عينها و حالمة
و كلمة اشمئزاز تحمل لي صورة شفتي ممطوطتين
ضيق : وجه مكشر
احتقار: أنف شرير شامخ و عينان تنظران لأسفل
كعادتك معبر جدا ما تكتبين وأما عن نظريتك اللغوية فأنا أيضا معكى فيها فأنا أرى أن الكلمات فى العربية معبرة جدا عن مضمونها شكلا و نطقا لا تتأخرى فى الكتابة :)
ReplyDeleteيا رحاب... أنا أعتبر هذه القطعة معزوفة أدبية جميلة وأرفض أن أراها على أنها فعلاً تحليل لنظرية لغوية
ReplyDeleteهذا شعر يا عزيزتي... شعر جميل! خاصة فقرة كلمة احتلال... أعجبتني جداً وأعدت قراءتها أكثر من مرة.
أما بالنسبة لموضوع النظرية ده ف زي ما حصل أول مرة حدثتيني عنها تخيليني واقعة على روحي م الضحك وبادبدب في الأرض وانت واقفة حاطه إيدك في وسطك وعلى وشك مرسومة كلمة "غضب" مع إنك فطسانة على روحك م الضحك انت كمان
:p
رحاب :
ReplyDeleteوالوطن مكان وزمان. تسمع اسمه فترى صور صغيرة جميلة (أو صغيرة قبيحة). تسمع اسمه فتتذكر (ذكريات في الماضي أو في المستقبل). تسمع اسمه فتبكي وتضحك وتجد نفسك مندفعاً بسرعة لحافة الجنون. تسمع اسمه فتركض وتركض لتصل للنهاية، فإما تقفز وترتفع لتتحول لنجمة تضيء الطريق، أو تقفز وتسقط وتتهشم وتتحول إلى كيان مَنسي آخر يضاف إلى آلاف الأشلاء التي لا يعبأ بها أحد" ، حرام عليكى قلبتِ علىَّ المواجع
بجد هايل فى إطار قطعة فنيةأو معزوفة أدبية زى ما بتقول سامية لكن حكاية النظرية دى خليها بينا و بين بعض فى المدونة،بس هوألطف حاجة لما تخيلتك إنتِ و سامية زى ما هى وصفت، نفسى أبقى موجود فى المشهد ده ،بس حقيقى التدوينة دى حسستنى بحاجات كتير قلت واحدة منهم فى الأول بس كمان خلتنى أبتسم فى وقت الإبتسام فيه صعب زى ما أنتِ عارفة .تحياتى
لا ادرى ان كنت انا مقتنعه اصلا بتلك النظريه ام انتى اقنعتينى
ReplyDeleteولكنى دائما اشعر ان لبعض الكلمات دلاله عم سواها او يمكن ان تكون ذكريات مختلفه تثيرها الكلمات عندنا .شوفى كلمه "ابتسام" طالعه بتضحك لوحديها ازاى :)
و زمان قوي لما قرروا يسموها؛ احتاروا في الاسم؛ لكن في النهاية سموها -كمت- و لما سألوهم ليه -كمت- ؟ قالولهم بصوا على أرضها؛ شايفين لونها أيه؟ لونها أسود؛ أسود غامق؛ و عشان كدة هي أرض السواد و عشان كدة هي -كمت- يعني أرض السواد؛ صحيح أول ما قرأ -كمت- تحس بلإنقباض من السكون المسيطر على نطق الكلمة و شكل الكاف زي الكوبرا الي قدسوها و الميم و التاء ممتدين وراها زي ذيل الأفعى المعقود؛ دي صورتها في عين ألي ما شافش ألي وراها؛ لأن أرض السواد صحيح تخوف و صحيح ممكن تبقى ساعات كئيبة بس السواد يعني الخير بردو و عشان تفهم معنى السواد محتاج تفهمها و تديها فرصتها و تتخانق مع الأفعى ألي جوة لحد ما تلاقي جمال أرض السواد
ReplyDeleteالله يا رحاب.. بجد الله.. بصرف النظر عن نظريتك اللغوية الي مش حعلق عليها طبعاً :؛... بس الجزء بتاع الوطن المحتل ده جميل قوي... صور صور صور و كلها حقيقية قوي و بتوجع قوي.. يا تري رايحيين علي فيين؟؟؟ ربنا يستر!!!!
ReplyDeleteرد فعلي هو:
ReplyDeleteده شه
بالأمس كنت أغنّي "شرط المحبّة الجسارة" وكنت أفكّر في الفارق بين:
الجرأة
والشجاعة
والجسارة
الجسارة
الجسارة جميلة
وهي فعلاً شرط المحبّة
السين
والجيم
والانسياب
كموجة بحد تبدأ بالجيم وتمتد في انسياب السين ثم ترمي مع الـ"ااارة"
تسشششششششش
تغرق وشي وتختلط بدموعي على جسارة لا أملكها بعد
فكيف أتحدّث عن المحبّة؟
Good point...love the way you illustrated it :)
ReplyDeleteمما لا شك فية انها من احلي و انضج القطع الادبية التي قرأتها مؤخرا .
ReplyDeleteعلي ان قبولها كنظرية لغوية يحتاج الي قدر من الشفافية لا يتواجد في معظم العلماء
علي اي حال,الموهبة الحقيقية كالجريمة,لا يمكن ان تخفيها للابد :)
تشبه الموهبة بالجريمة يا لون! حلوة يا رحاب حلوة يا لون وعجبي...
ReplyDeleteلا يسعني إلا أن أقول صادقا ً عماااار يا مصر، مصر لسه فيها مبدعين و فلاسفة ، و أدباء
ReplyDeleteرحاب..كلماتك رائعة و أسلوبك إنسيابي و مريح جدا ً .. (ده رأي متواضع مش أكتر) استمتعت فعلا بقراءة النظرية اللغوية التي انتهت ببكائية
سمعتي أغنية إمام ونجم اللي بتقول:
ReplyDeleteالخط ده خطي
والكلمة دي ليّا
غطي الورق غطي
بالدمع يا عنيّا
شط الزتون شطي
والأرض عربية
نسايمها أنفاسي
وترابها من ناسي
وان رحت أنا ناسي
مهاتنسانيش هى
الخط ده خطي والكلمة دي لىّ
كإنك انتي اللي بتغنيها يا رحاب، أحسنتي
هو فيه قصة طويلة جدا بتحكى عن أشكال الحروف ، انا مش فاكرة كلها لكن فاكر جزء بيحكى كيف أن الذات الالهية دخلت على الحروف و كانت كالحجارة فانتفض حجران فقال اللة للحجر الذى و قف أولاً .
ReplyDelete- أنت الألف ... ملك الحروف و وضع على رأسه تاج فكانت الهمزة ،
ثم قال الرب للحجر الثانى :
- و أنت كن اللام تتبعه و بكما تُعرف باقي الحروف و تنكر
و هكذا تتوالى القصة
--------
هناك نص أيضاً لمولانا محى الدين بن عربي يحمل اسم (( الحرف أمه من الأمم )) يدور حول نفس الفلك
لطيف جدا
ReplyDeleteأنا كنت ملاحظ إن في حروف في اللغة العربية تعاني من الاضطهاد زي
ز، ط، ظ، خ، ق
الحروف دي غالبا بتكون في الكلمات المغضوب عليها في اللغة، أو الكلمات الداخلة في نطاق العيب .. أو المحرمات
ممكن أكتب عن ده لو قدرت أكتب تاني
على فكره النظريه اللغويه دى تدل على ان صاحبها دمـــــــــــــاغه عــاليه
ReplyDeleteملحوظة لام عاليه بتفكرنى ببرج ايفل
إبليس: قصة أشكال الحروف دي شكلها مثيرة للاهتمام جداً، لو افتكرت مين كتبها وإلا اسمها إيه يا ريت تقوللي. أما عن محي الدين بن عربي فدي برضه معلومة جديدة، هتخليني أدور على النص ده
ReplyDeleteشوب جيرل: أنا فعلاً ممكن اعمل نظرية واقنع الناس بيها، دي حاجة بأعملها على طول في حياتي اليومية :P
شكراً لتعليقاتكم كلكم دائماً :)
مش عارفه طلعتيلي منين ادمت قرائه مدوناتك من ايام طفولتك و حتى الان مش عافه في شي فيكي كده مش عارفه اوصفة فيروز اسلوب الحياه يمكن اعبر فنه في يوم ما على العموم اعتبريني صديقه جديده مصريه على فلسطينيهعلى حبت بحث عن نفسي
ReplyDeleteأهلاً بيكي يا أم العيال :) خطوة عزيزة خالص :)
ReplyDeleteأعجبنى هذا التحليل لاعتماده فى التفسير على احساسك بالكلمات ممتزجاً بواقع نعيشه بالفعل ، وفى نظريتك جزء كبير من الحقيقة .. ألم يقسم رب العالمين فى كتابه الحكيم بالنون وبالألف واللام والميم ....
ReplyDeleteمع محبتى
Maha
http://mashrabeya.blogspot.com/
غريب فعلا يا رحاب
ReplyDeleteأشعر منذ زمن بأن الحروف المرسومة تحمل صورا تعبر عن الكلمة
كلمة ذهول تبدو لي فاغرة فاها
و كلمة نشوة تبدو مغلقة عينها و حالمة
و كلمة اشمئزاز تحمل لي صورة شفتي ممطوطتين
ضيق : وجه مكشر
احتقار: أنف شرير شامخ و عينان تنظران لأسفل
بجد يا رحاب أنا كنت فاكرة نفسي اللي بفكر كدا بس !
ReplyDeleteبس طلع أهو في حد شبهي :D
الكلمات في الأصل كانت رسوم و بعدها تطورت لحروف
و ممكن تكون الحروف أخدت شكلها من الرسوم فعلا
نظرية يعني برضو!
:D