Wednesday, December 29, 2004

جمال الدنيا وحقيقة الأشياء



يقول تامر أنه يحبني فأصفعه. كان صيفاً رائعاً!

كلما تذكرت ذلك الصيف أشعر أنه حتماً استمر لأكثر من مجرد ثلاثة أشهر. كانت أيامنا كلها متشابهة ولكن كلها مختلفة. صباحاً أذهب إلى سماح: تسكن في البناية المجاورة بالطابق الأرضي ولديهم شرفة تطل على الشارع (سيظل هذا الشارع هادئاً وكسولاً، حتى بعد افتتاح المركز التجاري الضخم فيه بعد خمسة عشر عاماً من ذلك الصيف البعيد، وتحويل كل الشقق التي كنا نسكنها إلى محلات لإكسسوارات الموبايل ومقاهِ إنترنت). نلعب بعرائسها وآتي أنا بالأقمشة اللازمة لصنع ملابس للعرائس بأسلوب حياكة لا يتغير كثيراً: نلف القماش حول العروسة ونثبته بدبابيس. مرة نلفه حول وسطها، مرة حولها كلها، مرة حول يديها وساقيها كالمومياء، مرة حول رأسها. ومرة قماش أبيض فيصبح فستان زفاف، مرة أسود فيصبح على العرائس حضور مأتم، ومرة مزخرف بنقوشات لامعة فيكون وقت الاحتفالات والسهرات.

نزهد في العرائس فنبدأ حفلة الشاي (سأتذكر حفلات الشاي تلك كلما قرأت "أليس في بلاد العجائب" وأدرك أن حفلاتنا لم تكن مختلفة كثيراً عن تلك التي أقامتها أليس والأرنب وصانع القبعات المجنون). لدى سماح طقم شاي وردي صغير من البلاستيك. تأتي بزجاجة ماء باردة وآتي أنا ببسكويت "ماري". نملأ إبريق الشاي الصغير بالماء ونتبادل صب الشاي لبعضنا. نكسر بسكويت "ماري" قطع صغيرة لنتمكن من أكله في أطباق الحلوى الدقيقة. وأحياناً يكون هناك عنب، فنضع عنبة واحدة في كل طبق ونجلس هكذا في صمت نحتسي الماء ونأكل العنب ونتأمل أي وكل شخص (أو شيء) يمر أمام الشرفة.

تريد سماح أن تصبح مضيفة جوية عندما تكبر، فتصنع قبعة من الورق مثل قبعات المضيفات وترتديها في حفلات الشاي تلك، وأقول إنها يجب أن تكون مضيفة فعلاً لأن القبعة تلائمها جداً. أريد أن أمتلك مطعماً عندما أكبر، فاقتني طقم من أواني الطهي الدقيقة وموقد صغير وثلاجة أصغر، وانهمك في ضرب الماء ببعضه واصنع العديد من الأطباق المائية الشهية التي تحتسيها سماح فوراً، وتُثني عليها بحرارة وتقول أنني يجب أن امتهن الطهي لأن "نَفَسي حلو". تعوم بطوننا من كثرة الماء في أشكاله المتعددة فأذهب لمنزلي للغداء.

وفي تمام الخامسة نتقابل مرة أخرى مع باقي مجموعتنا (كنا أكثر من عشرين ولداً وبنتاً). منذ ذلك الصيف والساعة الخامسة هي من أحب أوقات اليوم إلى قلبي. أحب الغروب جداً، ولكني أحب أكثر كيف يبدو العالم قبل الغروب بساعتين. نمر أنا وأخي على سماح وأختها بسمة، ثم نذهب إلى "ميني ماركت محمود" لنأتي بالخيرات: جيلي كولا (حلوى جيلاتينية بطعم الكولا)، آيس كريم كونو (آيس كريم في مخروط من البسكويت)، لوليتا (ماء مجمد مضاف إليه لون صناعي)، دولسي أب بالمانجو (نسخة مطورة من لوليتا وأكبر حجماً)، لبان سحري (يغير لونه عندما تمضغه)، لبان النهضة (الذي يكسر الفك ولكن يصنع بالونات كبيرة جداً) وكل ما هو ملون ومقرمش ومثير لإزعاج مَن حولنا وقلق أهالينا.

نعود إلى شارعنا فنجد مجموعتنا قد اكتملت. نمضي بعض الوقت في أنشطة متفرقة: سباقات عدو (لمسافة خمسة أمتار!)، مباريات كرة قدم (يخسر فيها فريق البنات "الزهور" أمام فريق الأولاد "النمور" 4-20...في الشوطين!)، سباقات دراجات، استغماية، كهربا، صيادين سمك...إلخ. يا الله! عندما أفكر الآن في حجم الضوضاء التي كنا نصنعها أشكر في سري كل سكان شارعنا على تحملهم بل وتجاهلهم لنا، وأعاهد نفسي على ألا أنزعج أبداً من صوت أي طفل يلعب في الشارع.

نجوع فنشتري الذرة المشوي ولكن لا نشبع فاقرر أن على الأولاد أن يأتوا لنا بشيء نأكله. يختفي الأولاد لبعض الوقت، ويرجعون بالكثير من ثمرات المانجو من حديقة في آخر الشارع سافر صاحبها العجوز لقضاء الصيف مع ابنته. نفرح بالصيد الثمين ونقتسمها بيننا ونصطدم بالحقيقة "المُرة": لم تنضج المانجو بعد. نذهب لميني ماركت محمود لنشتري المزيد من الآيس كريم الكونو ليمحي المرارة. أعتقد أن هذا الصيف كان أول مرة يظهر الآيس كريم الكونو في مصر لأننا كنا نلتهمه بكميات مهولة وكل مرة يملؤنا العجب من هذا الاختراع اللذيذ.

في المساء أتخلى مؤقتاً عن حلم الطهي وأتجه لعالم الشهرة، فأتقمص شخصية المذيعة (قبل الفضائية المصرية) ويتقمص الكل شخصيات مختلفة، وأُجري لقاءات معهم كلهم بدون استثناء، على الرغم من عدم موافقتي على كل الشخصيات التي تقمصوها: مجرم محترف يٌدلي بتصريحات من داخل عالم الجريمة، "مِعَلمة" من زنقة الستات بالإسكندرية تشرح لي كيف ترتب الترتر والخرز بمتجرها، راقص باليه يعاني من مشكلة في جواربه، راقصة في ملهى ليلي تريد أن ترقص بأسلوب جديد وهي تضع زعانف وعوامة، قائد غواصة، عازف بيانو، ضابط مخابرات، وشحاذ.

ويأتي علينا وقت يسافر أغلب أصدقائنا للمصيف ويخلو علينا الشارع، فأُخرج عدة الطهي وأجلس على سلم بناية سماح. تأتي سماح بالماء والعنب هذه المرة، وتأتي أمل بصابون سائل (حتى يومنا هذا لا أعرف لماذا أحضرته!). أخلط الماء بالصابون استعداداً لإضافة باقي المقادير الوهمية. وبينما نحن جالسون هكذا ينزل شريف من بيته ويجدنا منهمكين في الطهي. كان شريف أكبر منا بسنتين: طفل طويل جداً بالنسبة سنه، طيب ورقيق مع البنات فيعاملنا كلنا كأخواته، ولكنه يفعل كل شيء بسرعة ويبدو دائماً في عجلة من أمره. يتهلل لرؤيتنا ويسأل: "بتعملوا إيه يا بنات؟"، وقبل أن نتمكن من الرد عليه يستنتج ما الذي نفعله: "بتطبخوا؟ بتطبخوا إيه؟". كنا لا نريد أن نكشف له سر فن الطهي الخفي فأخذنا نفكر في شيء آخر نقوله له، ولكن قبل أن ننبس بأي صوت ينظر شريف فيجد العنب ويستنتج طبق اليوم: "عصير عنب؟" هنا انحلت عقدة لسان أمل: "أيوه، عصير عنب"، فيأخذ شريف كوب محلول الصابون ويجرعه على دفعة واحدة! نرى عيناه تتسعان من خلف الكوب ويملؤهما الفزع ونحن مذهولون تماماً وفاقدون النطق! يضع شريف الكوب على السلم ويهرع صاعداً إلى شقته. نجلس أنا وأمل وسماح على السلم يعذبنا تأنيب الضمير لأننا السبب في قتل صديقنا الرقيق بمحلول الصابون. تتنهد سماح وتقول: "دلوقتي مين اللي هيبقى الحكم في الماتشات لو شريف مات؟" ننظر لها أنا وأمل في حيرة والحزن يطفر من أعيننا.

لا نرى شريف ليومين بعدها ونخاف إذا سألنا عليه يتهمنا أحد بقتله. في اليوم الثالث ينزل شريف ليلعب كعادته ولا يذكر أي شيء عن عصير العنب المزعوم، ولكن ينتحي بي جانباً وينصحني بأنه ينبغي في المرة القادمة أن أغسل العنب أولاً ثم أعصره، بدلاً من وضع الصابون عليه مباشرة في العصير. أعده أنني لن أعصر العنب بعد ذلك لأني "مش بحب العنب أصلاً!" يقول برقة: "لأ ماتقوليش كده! ده كان حلو جداً!"


أقول لسماح وأمل أنني قرأت طريقة صنع الطباشير في ميكي جيب ووجدت أنها سهلة للغاية، واقترح عليهم أن نوفر النقود التي نهدرها على شراء الطباشير ونصنعه بأنفسنا. تنبهني أمل إلى ثغرة صغيرة في الخطة: من أين لنا بالجير اللازم لصنع الطباشير؟ تتهلل سماح وتقول أن أهل تامر يصلحون شيئاً ما في منزلهم، وأنها رأت كومة من الجير داخل شرفتهم حيث يسكنون بالطابق الأرضي أيضاً، وحيث أنهم في بلبيس الآن لقضاء بضعة أيام فيمكننا "اقتراض" كمية قليلة وغير ملحوظة من الجير منهم. أفرح جداً وأقول لسماح حيث أن هي التي تفتق ذهنها عن هذه الفكرة اللامعة فعليها أن تذهب وتُحضر الجير. تتحمس سماح لدورها في مشروع الطباشير العظيم وتأخذ علبة صغيرة وتذهب من فورها لتنفيذ المهمة.

ولكن بمجرد أن قفزت سماح في شرفة تامر، سمعنا صوت سيارة وأصوات أشخاص تقترب منا. ننظر من فوق سور البناية فنرى والد تامر...ومعه ثلاثة أشخاص آخرون! والد تامر طيب ولكنه سريع الغضب، ويكفهر الجو من حوله إذا رأى أحداً منا يحوم حول حديقته الحبيبة. نجري أنا وأمل لنختبئ بعد أن نهمس لسماح أن تفترش أرضية الشرفة ولا تُصدر أي صوت. يدخل والد تامر شقتهم ويفتح النوافذ ويضيء الأنوار كلها ليستقبل ضيوفه. نتسلل بجوار الشرفة، ونرمي لسماح بعنقود عنب لتروح به عن نفسها في الأسر. كان على أحدنا أن يضمن أن والد تامر لن يخرج للشرفة أو ينظر من النافذة حتى ننقذ سماح ونأخذ الجير. أقول لأمل: "لما أضحك بصوت عالي خللي سماح تنط من البلكونة وإنتي خدي الجير واجروا لبيت سماح".

أطرق باب شقة تامر فيفتح لي عمو ويتهلل لرؤيتي: "أهلاً أهلاً، إنتي شفتيني افتكرتي إن تامر جه؟" ابتسم ببلاهة فيقول: "لا يا ستي، لسه ماجاش، أنا جيت لوحدي".

أفكر سريعاً: "أصل يا عمو....ممممم....طيب يا عمو...ممممم....ممكن ابعتله جواب؟"

"تبعتيله جواب؟ إحنا واخدينه يصيف، مش خاطفينه!" يضحك ولكن يوافق.

"بس أصل يا عمو...مممممم....أنا مش معايا ورقة وقلم دلوقتي!"

"طيب مش مشكلة، روحي اكتبي الجواب وهاتيه".

"لأ يا عمو! ما ينفعش! أصل يا عمو....مممم....أصل صباعي يا عمو....صباعي....صباعي ده...وده وده وده....كل دول...قفل عليهم الباب".

ينزعج عمو ويهم بأن يطلب مني أن أريه أصابعي المصابة، ولكن تتدخل العناية الآلهية فينادي عليه أحد أصدقائه من الداخل، فيرد عليه ثم يلتفت إليّ ويقول: "طيب تعالي جوه اكتبلك الجواب". أضحك بصوتٍ عالٍ (لأعطي الإشارة لأمل) فينظر إلى عمو باستغراب (وقد آمن أن تحطم أصابعي أثّر في قواي العقلية)، فيضيء وجهي كله بابتسامة واسعة وأنا اسمع خطوات مسرعة في الممر خارج الشرفة فاطمئن لنجاة سماح.

أدخل وأُملي على عمو الرسالة:

"صديقي العزيز تامر،

القطة المشمشي ولدت. موّتنا دودة وعملنا لها جنازة. رجل المستحيل نَزّل عدد جديد.

صديقتك العزيزة
رحاب بسام

القاهرة في 16 أغسطس 1987"

بمنتهى الجدية أقول: "بس خلاص. متشكرة يا عمو".

يغالب عمو الضحك: "لا ده أنا اللي متشكر. أنا متأكد إن تامر هيتبسط أوي لما يعرف إن الدودة ماتت والقطة ولدت".

فجأة نسمع أصوات صراخ في الخارج فنركض خارجين أنا وعمو. أرى منظر لن أنساه طول عمري: أمل في الحديقة، ملطخة بالجير، تقفز وتقفز وتقفز، وتصرخ: "يا ماما! يا ماما! يا ماما! يا مامااااااا!!!!" وتحاول أن تتخلص من ملابسها بهيستيرية. ويصرخ عمو عندما يراها تدعس أحواض الورد البلدي، وتصرخ سماح عندما ترى أمل بدون ملابس. أقفز في الحديقة لأقوم بأي شيء ينهي هذا الموقف، وتقفز سماح في الحديقة لتساعدني، ويقفز عمو ليرمي بنا خارج الحديقة.

يتضح فيما بعد أنه كان هناك فأر يختبئ في الجير، وعندما ذهبت أمل لاقتراض الجير ذُعِر الفأر فقفز داخل فستانها الفضفاض، ووقعت أمل في الجير وهي تحاول تخليص نفسها، ثم أخذت في الجري للحديقة عسى أن يهرب الفأر من تلقاء نفسه عندما يجد أنه وسط مكان يعرفه.

يصيح عمو فينا فيهرب الفأر ونجري نحن حتى نصل لبيت سماح. نجلس على سلم بنايتها نستعيد أنفاسنا ونربت على أمل لنطمئنها وننفض عنها الجير، ثم شيئاً فشيئاً نبدأ في الضحك حتى تدمع عيوننا.

أسأل أمل: "كان لونه إيه الفأر؟"

"لونه؟! أنا شفت سنانه ما لحقتش أشوف لونه".

تقول سماح بحكمة: "المرة الجاية ما تلبسيش هدوم واسعة" (كأن هذا هو حل المشكلة!).

تنهرها أمل: "وإنتي كنتي بتصرخي ليه إنتي كمان؟"

"أنا ما شفتش الفأر أصلاً! أنا كنت فاكراكي هتقلعي هدومك في وسط الشارع!"

تقول أمل: "آدي آخرة أفكارك: فار وطين وجير، وكمان بوظنا جنينة عمو".

تسألني سماح: "أمال إنتي إزاي شغلتي عمو؟"

"قلت له عاوزة اكتب جواب لتامر".

"جواب لتامر؟! ليه هو تامر فين؟"

"أهو اللي جه على بالي ساعتها!"

"وقلتي له إيه في الجواب؟"

"قلت له على القطة...والدودة..."

"القطة والدودة؟!"

"آه..."

ننظر لبعضنا البعض ثم ننفجر في الضحك من جديد.


ومرة كل أسبوع أستقل دراجتي وأذهب مع ثلاثة آخرين من أصدقائي للمكتبة البعيدة جداً لشراء "الألغاز" (بعد سنوات من تركي لهذا المنزل أكتشفت أن تلك المكتبة لم تكن بعيدة إلى هذا الحد الذي تصورناه. ربما لأنها كانت في آخر شارع كبير وطويل كنا نحس أنها بعيدة ويستدعي الذهاب إليها صحبة آمنة في وضح النهار). أتذكر أن الجو كان دائماً شديد الحرارة في مثل هذه النهارات، وأتذكر أيضاً أن ذلك لم يمنعنا من الذهاب. نشتري ملف المستقبل وعين في اتنين ورجل المستحيل والمكتب رقم 19 والمغامرون الخمسة والشياطين الـ13 وقصص المكتبة الخضراء. وبعد أن يأتي كل منا على غنيمته القصصية نخصص يوماً للتبادل الثقافي، فنرص كتبنا على قفص دواجن نغطيه بمفرش منقوش، وأدون أنا في دفتر أزرق صغير أسماء الكتب وأسماء المستعيرين وعنوان منزلهم وتاريخ الإستعارة. أقرر غرامة 25 قرشاً (أو اثنين بسكويتة بيمبو) في حالة ضياع أو تلف الكتب.

نلعب عسكر وحرامية ويتعين على حماده (لأنه أكبرنا) اختيار فريق فيختار كل الأولاد "الكبار"...وأنا! ويبقى للفريق الآخر البنات وبعض الأطفال. نبدأ اللعب ويكون من الواضح أن فريقنا هو الغالب. تتوقف سماح عن اللعب وتقرر أن "ما ينفعش تبقوا كلكم في فريق واحد!". يصر حماده على فريقه فيشتد غيظ سماح وتقرر أنها لن تلعب وتصب جام غضبها علىّ، تعقد ذراعيها أمام صدرها وتقول: "إحنا ما يشرفناش نلعب مع واحدة بتستخبى تحت العربيات!"

أنفجِر في البكاء وأنا أحاول أن أشرح لها أنني أحب الاختباء تحت السيارات لأنه مكان غير متوقع، فيتعاطف معي كل الأولاد وبعض البنات، وتنقسم مجموعتنا إلى فريق منحاز لي وفريق منحاز للشرف. ولمدة ثلاثة أيام لا تخرج سماح للعب وألعب أنا مع الأولاد، ثم أُمَل من صخبهم وأحن إلى عرائس سماح وحفلات الشاي، فأذهب لها وأقول أنني لن اختبئ تحت السيارات بعد الآن، ولكن عليها أن تعتذر لي وللكل فتوافق ونعود أفضل الأصدقاء.

(لا أصدق حتى اليوم أنها قالت "مايشرفناش"! لقد كنا في العاشرة من عمرنا، ماذا كنا نعرف عن الذي يشرفنا أو لا يشرفنا؟!)

كان تامر عاشق مثالي: يتسلق الأشجار ليأتي لي بالزهور الحمراء الكبيرة التي أُحبها، يُصلح لي دراجتي، يذهب وحده لميني ماركت محمود (رغم أنه لم يكن يملك دراجة) ليأتي بأي شيء أشعر فجأة أن "نفسي فيه"، يُفاجئني بقطع صغيرة من الشوكولاتة ملفوفة في ورق لامع أو شفاف وملون (يأخذه من ورق تجليد كراريسه القديمة)، يدافع عني في المشاجرات، يتركني أسدد أهداف في المباريات، يدعني أختار الألعاب التي أريد أن ألعبها، لا يعترض على صداقاتي مع الأولاد، لا يتضايق من تنوراتي المتناهية القِصر، يُثني على شَعري في كل حالاته، ولا يُمسك بي في الاستغماية. وكان يكتب لي شعراً قصيراً على ورق صغير جداً (كان يكتب عن الورد والشجر والسناجب، ولكن حيث أنه كان يعطيني هذه القصاصات فاعتبرت أن كل هذا الإنتاج الشعري موجه لي). كان تامر في الثالثة عشر من عمره وكنت في العاشرة.

وفي يوم من الأيام كنا نلعب كالعادة أمام بيت سماح: بعضنا يدور في دوائر بلا هدف بدراجته، بعضنا يلعب "أفلام"، بعضنا يقذف البعض الآخر بأحجار، وبعضنا منهمك في إتقان بالونات اللبان، وأنا في درس خصوصي في كرة القدم مع حماده. يريد حماده أن يعلمني كيف أسدد هدف "داخل" المرمى، كنوع من التغيير (حيث أن كل الكرات التي أركلها كان يتعين على الأولاد أن يسترجعوها من فوق الأشجار وشرفات الجيران والحدائق المجاورة). بعد ساعتين من التمرين أنجح أخيراً في تسديد الكرة في المرمى! أصرخ في سعادة فائقة، وآخذ في "التنطيط" على سلم البناية والضحك بدون توقف، وفجأة يظهر تامر بجواري لا أعرف من أين.

بتجهم شديد يقول: "ما ينفعش".

أتلفت حولي غير متأكدة مَن المقصود بهذا الحوار. أدرك أنه يقصدني أنا: "ما ينفعش إيه؟"

"مش مفروض حماده يعلّمِك! مفروض أنا اللي أعلّمِك!"

"تعلمني إيه؟"

"أعلمك الكورة!"

تزداد علامات عدم الفهم على وجهي: "اشمعنى إنت اللي تعلمني؟!"

"علشان أنا بحبك!"

أحملق فيه بذعر، ولا أشعر بيدي وهي تأخذ ردة فعل مستقلة فتصفعه صفعة يتردد صداها في بئر السلم بالعمارة. أنزل درجات السلم مسرعة عندما أرى الغضب يتصاعد في عينيه، ولكنه يلحق بي أمام باب العمارة ويحاول أن يلوي ذراعي ليوقفني ويرد لي الصفعة، فأصفعه بيدي الأخرى وأطلق لساقي العنان، ولا يحاول هو أن يلحق بي هذه المرة، فالكل يعرف أنني أسرع من يركض في شارعنا.

أتسلل إلى البيت حتى لا تسألني أمي لماذا عدت مبكراً من اللعب. ولأن بيتنا كان بالطابق الأرضي كان يمكن أن أدخل غرفتي من الشرفة المطلة على الحديقة بدون أن يراني أحد. أجلس في غرفتي أحاول أن أفهم أو أجد تفسيراً لما حدث. ألجأ إلى عرائسي: "شفتوا المصيبة اللي أنا فيها؟؟ بيحبني يعني إيه؟ وأنا أعمل إيه دلوقتي؟؟ كده لازم نتجوز!"

وأثناء هذه الوقفة مع الذات أسمع فجأة جلبة في الحديقة: صوت شيء ثقيل يقع على الأرض، أصوات أقدام، نباح كلب الجيران، ثم فجأة صوت مياه غزيرة، وصوت أقدام تركض بعيداً. أنظر من خلف زجاج غرفتي فلا أرى شيئاً. أسمع أمي تخرج في الشرفة وتنادي: "مين؟! مين؟!" وأسمع جارتنا اليونانية وهي تنهر كلبها ليصمت. أخرج في الشرفة فأجد خرطوم المياه قد أغرق الحديقة وأرى حذاء أحمر على سور الشرفة. أعرف أنه لتامر. أنظر حولي لأفهم ماذا كان يفعل هنا فأرى دراجتي على الأرض وقد أُفرغ من إطاراتها الهواء!

يخرج أبي للشرفة ويجد كل هذه الفوضى: "في إيه؟!"

أجيب باقتضاب: "حد فضّى العجل بتاعي".

"مين اللي عمل كده؟ إنتي عارفة مين؟".

"تامر. دي جزمته اللي على السور".

"وإيه اللي يخلي تامر يعمل كده؟؟ تامر ولد مؤدب. إنتي أكيد عملتي له حاجة".

أهز رأسي موافقة وأبدأ في شرح موقفي: "أصل يا بابا..."

يشير إلي أبي أن أصمت: "بس...بس... بدال فيها "أصل يا بابا" يبقى مش هاخلص منك ومن لماضتك". ويطلب مني إذا كنت أغضبت تامر أن أذهب وأعتذر له.

أخرج من البيت مرة أخرى وأنا أشتاط غضباً هذه المرة. أعتذر له؟! هو بيحبني وأنا أعتذر له؟؟ وبعدين دي مش زي دي: الحب مش زي العجلة! إزاي يعمل كده في عجلتي؟! وبعدين هو الغلطان! هو اللي قال إنه بيحبني!

وأنا أسير في اتجاه بيت تامر أجد والده يسير في الاتجاه المقابل. أركض نحوه: "يا عمو...تامر فضى لي الكاوتش بتاع عجلتي!"

"ياه! ده شرير أوي! وليه يا ترى عمل كده؟"

أتردد في الإجابة.

يميل عمو عليّ ويهمس: "إنتي عملتي إيه؟"

أحسست بالسأم من كل هذه الاتهامات فقررت أن أعترف: "ضربته بالقلم!"

يُصعق عمو: "ضربتيه بالقلم؟!"

"أيوه! علشان هو قال إنه بيحبني....ودلوقتي لازم نتجوز!"

يغالب عمو الضحك ويعرف أن "الموضوع جد" فيأخذني من يدي لبيتهم وينادي على تامر. يأتي تامر حافي القدمين ومحمر الوجه. يقول عمو أنه سيحضر شيئاً نشربه ويتركنا سوياً.

أجلس في صمت عنيد بلا حراك، ويختلس هو النظرات إلىّ. لا أحتمل الصمت أكثر من بضع ثوانٍ: "إنت إزاي تعمل كده؟! إنت عارف يعني إيه حب؟!"

يطرق تامر بإحراج ويجيب بتردد: "آه..."

"يعني إيه بقى؟!"

"يعني أبقى مبسوط وأنا معاكي، ولما ما تكونيش موجودة أكتب كل الحاجات اللي حصلت في نوتة ولما تيجي أحكيها لك، يعني أنا اللي أجيبلك الورد والشوكولاتة، وأنا اللي أعلمك الكورة".

أصمُت. كلامه معقول وما يتكلم عنه يبدو كالحب فعلاً. إذا لم يكن هذا هو الحب فما الحب إذن؟

أبتسم فيبتسم. ثم أسرع في توضيح موقفي: "بس أنا مقدرش أتجوزك يا تامر، لازم تعرف كده، أنا مش هاضحك عليك!"

"لا مش لازم نتجوز، مش ضروري، أنا بحبك، ده المهم".

أتنفس الصعداء ويرى هو الراحة البادية عليّ: "يعني خلاص؟ صافي يا لبن؟"

"حليب يا إشطة".

يعطيني ورقة صغيرة ملفوفة: "أنا كتبت لك الشعر ده دلوقتي بعد ما طلعت أجري من بيتكم".

أفتحها فأجد أنه زيّن القصاصة برسومات رقيقة لزهور وعصافير.

"الحب على الشجر
والقلب في المطر
والشمس في الصباح
والقمر في المساء
أنتِ جمال الدنيا
وحقيقة الأشياء"

ألاحظ أنه لأول مرة يقول "أنتِ" في قصيدة فيحمر وجهي بشدة، ولا أعرف كيف أستجيب لهذه اللفتة التي تنم (بالتأكيد) عن حب عميق. يأتي عمو بالليمون البارد ويرانا تحيط بنا هالة من الإحراج والخجل والقلوب والعصافير فيعرف أننا سويّنا أمورنا، فيطلب من تامر أن يعيد نفخ إطارات دراجتي فوراً حتى أستطيع اللعب غداً.



قبل أن ينام يحضر أبي لغرفتي ليطمئن علىّ. يسألني: "كان إيه بقى اللي حصل علشان تضربي تامر بالقلم؟" فأحكي له. يضحك أبي طويلاً ويقول: "يا بنتي لو كل واحد قال لك أنه بيحبك هتضربيه بالقلم حياتك هتبقى صعبة جداً". لا يبدو عليّ الفهم فيُقبلني ويخرج.

أسمعه في الردهة يضحك بصوت خافت ويتمتم لنفسه: "تضربه بالقلم؟! علشان بيحبها؟! أمّا صعيدية صحيح!"

Tuesday, December 21, 2004

عالم صغير


يبهرني صغر هذا العالم على رحابته: ينهار البرجان فأتزوج، وتسقط بغداد فتنتهي حياتي المهنية.

أحببت زوجي قبل أن نتزوج. أحببت فيه أحلامه عن التغيير وقدرته على أن يعيش التغيير الذي ينادي به. وأحس هو في وقت مبكر من حياته أن مواهبه لن تقدر في مصر وعليه أن يتركها ليستطيع أن يفيدها أكثر على المدى الطويل، فعمل جاهداً على أن يهاجر إلى أمريكا فور حصوله على شهادته الجامعية. وكجزء من مشروع الهجرة اتخذ زوجي (قبل أن يصبح زوجي) قرار بعدم الارتباط حتى لا تكون لديه أي قيود قد تحول بينه وبين حلمه عندما يحصل أخيراً على تأشيرة الهجرة.

ثم تقابلنا. وبعد خلافات استمرت ثلاث سنوات--يقول فيها هو أنه لا يريد الارتباط لأنه مسافر عاجلاً أو آجلاً ولا يريد أن "يربطني جنبه" ويظلمني معه، وأقول فيها أنا إني لا أريد الارتباط لأني لا أريده أن يضحي بحلمه من أجلي--حلّ "الإرهابيون" مشكلتنا وضربوا برجي التجارة بنيويورك. ولأن زوجي يعمل في مجال البترول فأصبح من غير الواقعي أن يتخيل أن بعد أحداث سبتمبر سيُسمح لعربي أن يقترب من بترول أمريكا، فتزوجنا في أكتوبر 2001.

لحسن الحظ (أو سوءه) لم يمر وقت طويل على زواجنا حتى اكتشفت أن سبب خلافاتنا السابقة لم يكن مجرد تمسكه بحلمه وتمسكي بتمسكه بحلمه؛ كان يريد أن يكون هو "هو" وأكون أنا كما يريد هو.

ولأني اخترت زوجي بحرية تامة وبكامل قواي العقلية فقد تحملت سخطه الدائم على الحياة، وعلى الذين يحيونها، وعلى حال البلد، وعلى الذين يعيشون فيها، وإن كنت أجد صعوبة في فهم أسباب سخطه أو التعاطف معه: فهو يعمل في شركة أجنبية، ويقبض راتبه بالدولار، ولديه سائق خاص، وإجازة سنوية شهر في العام، وجميع أصدقائه من الأجانب المتقززين من مصر أو المصريين، الذين لا يملون من تذكيرك بأصولهم الملكية التركية، أو
الشامية، أو الروسية، أو الرومانية، أو الفارسية، أو أية ملكية أخرى لم يعد لها وجود.

ولكنه كان دائم التذمر من القمامة، والزحام، ورئيسه المباشر المصري، والفساد، والجهل، والذباب، وإشارات المرور...إلخ، ويفتعل مشاجرات مع الزبال والمكوجي واللبّان فقط لتتاح له فرصة إعطائهم درساً عن الحياة في الدول المتقدمة، وكيف أننا لن نتقدم طالما تأخر المكوجي في إحضار الملابس المكواة.

كنت أنزل الدرج يوماً فسمعت اللبان يسأل البواب إذا كان "الراجل الأهبل" موجود فوق، ففهمت فوراً أنه يتحدث عن زوجي (حيث لا يسكن أحد "فوق" سوانا) فثرت ثورة عارمة، واكفهر وجهي، والتمعت عيناي بالدموع، وقررت أن أنزل الدرج سريعاً لألحق باللبان و"أوريه شغله"، ثم تداركت نفسي وتذكرت أن آخر مرة مر علينا اللبان أنتقد زوجي ذوقه في اختيار ألوان ملابسه وقال منفعلاً: "لازم يكون في بوليس يقبض على الناس اللي لابسة مبهدل!"

ضحكت في سري: "طيب ما هو أهبل فعلاً!"

وينفجر زوجي في وجهي عندما أحاول أن ألفت نظره إلى أن في أمريكا هناك مشاكل بطالة وفقر، وهناك ظلم وجهل أيضاً، وأحاول أن أدعم وجهة نظري، فأقول إني شاهدت فيلم أمريكي مأخوذ عن قصة حقيقية، وتدور أحداثه في أمريكا عن مشكلة المتشردين عندهم، فيكون رأيه أن "الأفلام دي بيعملها الحالمون والشيوعيين أعداء أمريكا".

كانت وجهة نظره أنني أسبح في بحر من الأوهام الجميلة التي لا أريد أن أفيق منها. اقترح علىّ أن أكتب قصة اسمها "سميرة في بلاد العجائب" فربما يستطيع أن يفهم كيف أرى هذه البلد. ويرى في عملي في مركز ثقافي مهتم بالمواهب الشابة الفلسطينية هروباً من واقعي "المصري" (كأن الواقع الفلسطيني شيء يتوق المرء للعيش فيه).

وبرغم كراهيته للجرائد المصرية أصبحت من عادات زوجي المقدسة قراءة صفحة الحوادث كل يوم. يقول أنه يتعلم منها أساليب للدفاع عن نفسه عن طريق المعرفة المسبقة لحيل اللصوص وأن ذلك يكسبه قدرة على فهم النفس البشرية. أقول له أن النفوس البشرية في صفحة الحوادث هي نفوس مريضة في أغلب الأحوال أو مضطربة على الأقل، فيرد: "نعم، ولكنها مازالت نفوس وتندرج تحت البشر".

وفجأة وبرغم توقعاتنا جميعاً، وبرغم شجبنا وإدانتنا وولولتنا وخبط رؤوسنا في الحائط...سقطت بغداد. بدا لي بوش وكأنه يلعب لعبة النقاط التي كانت أول ما تعلمناه في روضة الأطفال: نصل الكرة بحرف الكاف والجزرة بحرف الجيم، أو نصل الأرقام لنشكل أرنب أو قطة، ولكن في حالته أوصل بوش الإرهاب بحروف اسم صدام ووصل الأرقام ليشكل واقع جديد مرعب.

وهنا قررت الجهة التي تمول مشروعات مركزنا الثقافي سحب دعمها وتوجيهه إلى مركز آخر مهتم بالمواهب الشابة العراقية هذه المرة. نحاول أن نبحث عن مصدر آخر للتمويل بلا جدوى، "فالموضة السنة دي العراق" على رأي مديري.

أنظر إلى الأنقاض التي خلفها سقوط البرجان حولي: زواج ينخر فيه سوس عدم التفاهم وعمل ملقى على قارعة الطريق لا يريد أحد أن يرميه في القمامة ولا أن يحتفظ به في متحف.

أمضي أيامي متسمرة أمام نشرات الأخبار والتحليلات السياسية. أخاف أن أغيب عن البيت لعدة ساعات لئلا يفوتني شيء قد يغير مسار المهزلة اليومية. يستمر زوجي في نشاطاته اليومية بمنتهى الالتزام والاهتمام (وعدم الاهتمام بالعالم خارج حدود أطرافه الأربعة). شيئاً فشيئاً أسقط في رمال الاكتئاب المتحركة فلا أقاوم. يعود يوماً من العمل ليجدني ممددة على أرضية المطبخ أبكي وأنا ممسكة بقنينة زيت زيتون. يقرر أنه حان الوقت للطبيب.

يسألني الطبيب بماذا أشعر فأقول أنني لا أعرف. يسألني مما أعاني فأقول أنني لا أعاني. يصمت قليلاً ثم يسألني متى مشطت شعري آخر مرة فأقول منذ ستة أيام فيصف لي مضاد للاكتئاب.

لا أشاهد التلفاز الآن. منعه الطبيب. أقضي أيامي أحاول أن أعرف كيف تمر أيامي. وعندما يعود زوجي من العمل، على غير العادة أجد نفسي أريد أن أجلس قريبة منه. لا أريد أن يختلي بي عقلي. أتنهد. يرفع زوجي عينيه من جريدته وينظر إليّ متسائلاً.

أقول: "يلعن أبو أمريكا!"

يرفع حاجب واحد مستغرباً.

فأضيف: "وابن لادن!"

يهز رأسه مؤيداً ويعود إلى صفحة الحوادث.



(بدأتها: 20 سبتمبر 2004 وأنهيتها 21 ديسمبر 2004)

Sunday, December 19, 2004

أنا... بس على أكبر


تصرخ في أمي: "لن تفهمي. لن تفهمي حتى تصبحي في سني وتشعري بما أشعر".


أشرد وأراني بعد 20 سنة من الآن ...

لن تختلف خطواتي كثيراً: خطوات واسعة وسريعة نسبياً. لن تختلف نظرتي كثيراً: أسير ناظرة للأمام، أنظر للعالم في عيونه، أرى ولا أرى، وعلى شفتي ابتسامة شاردة، وفي رأسي أدندن بأغنية. دائماً هنالك أغنية. وغالباً ما تكون لفيروز. تحكي فيروز قصصي ... كلها.

لن يتغير نظام يومي كثيراً. استيقظ مبكرة. أشرب قهوتي وأقرأ شيئاً أو أتفقد بريدي الإلكتروني. أسقي نباتاتي الصغيرة وأطعم القط. أغسل أو أنشر أو أجمع الغسيل. أفعل نفس الأشياء ولكن ببطء وتأنٍ. ليست هناك حاجة للهرولة.

سأحرص على أن يبقى شعري بنفس اللون: بني غامق. أقصه فتنهرني سامية وتقول إن الشعر القصير يجعلني أبدو أكبر من سني. أضحك وأقصه أقصر بعدها بأسبوعين.

أمر على خالتي. طبخت بطة وكالعادة لا أحد يأكل البط غيري وغيرها. تشتكي من ضعف سمعها وأشتكي من ضعف سمعي. تقول خالتي إنني دائماً ومازلت أعيش على "شواشي الدُرَة": لا أتوقف عند كثير من الأشياء، ولا أهتم بالكثير مما يهتم به من حولي، ولا أعلّق على الأحداث في حينها. وتلومني خالتي دائماً لأني لا أتذكر أسماء أحفاد أحفاد أولاد خالاتي. أقر بخطأي وأتعلل بذاكرتي التي تسوء مع الوقت (ولكن لا أعترف لها أنني لم أعد أعرف الأحفاد من الأولاد: كلهم يشبهون بعضهم البعض، وكلهم نسخ جديدة أو قديمة من أهاليهم وأولادهم).

يتصل بي صديق طفولتي لأحضر و"أتصرف" مع ابنه. أحب ابنه كثيراً. يكتب ويكتب ويكتب، شعراً رقيقاً لا يريه لأحد. لا أذكر ما الذي فعلته لأكسب ثقته، ولكنه قرر يوماً أن يريني أشعاره، ومن يومها وأنا من أكبر معجباته. أعرف من الأشعار أنه يحب. أراه في الشارع يوماً معها فأُسقط نظارتي وأنحني لأبحث عنها تحت السيارات حتى يمر هو وهي بدون إزعاج. يعترض أبوه على قراءاته التي لا تنقطع ويرى أان "مستقبله هيضيع" إذا استمر يعيش بين صفحات الكتب أكثر مما يعيش فعلاً. أنتحي بالولد جانباً وأقول أن بإمكانه أن يأتي بكتبه ومذاكرته ويقرأ ويذاكر كما يريد في مكتبي. أنا أفهم وهو يفهم، فمجال دراستنا واحد. نبتسم وأخرج فأقول لوالده أن الولد لا يستطيع التركيز في هذا المنزل المزعج ولذلك سيذاكر في مكتبي. يرفع صديقي حاجب واحد مستنكراً، ثم يفهم فيبتسم: "ماشي يا رحاب".

تتصل سارة لتبلغني أن أحد كتابنا المحبوبين قد توفى. تقول بحسرة: "حتى ده يا رحاب بقى من الكلاسيك".

ويوم الجمعة أشعل البخور وأخرج البطاطين في الشمس، وأجلس هكذا لبعض الوقت أشبع ساقي بالدفء، وأراقب ذرات التراب وهي تسبح في شعاع الشمس. أتذكر بيت جدتي الذي وُلِدَت فيه. أقرأ لها الفاتحة. أنزل مع أمي لنتغدى سوياً ونذهب للسينما كعادتنا كل جمعة. اليوم أنا التي سأختار المكان فأختار الكوربة. أحب الكوربة في الصباح المبكر. أحبها عندما تبدأ الدكاكين في الاستيقاظ . أحب رائحة الخبز الساخن من مخبز فينوس. أحب انسياب نور الشمس بين البواكي. أحس أن الشمس تلعب معي استغماية: الآن أراها...الآن لا أراها. أستيقظ فأجد أمي مستيقظة. هذا هو الوضع منذ أن كنت طفلة، فأمي تستيقظ مبكرة جداً. كانت تقول لي أنني كلما تقدمت في السن سيقل نومي. ولكن كلما قل نومي قل نومها هي أيضاً، فيظل بيننا هذا الحوار الأبدي الذي يدور حول لماذا أنا صامتة هكذا في الصباح ولماذا تتناول هي الغداء في الثانية عشرة ظهراً. يعجبنا الفيلم ونتناقش فيه طوال اليوم، ونختلف على رؤيتنا له، وتقول إني لم أفهم الفيلم وأقول إنها ستتفهم وجهة نظري بعد ستة أشهر. يعجب أمي فستان لا يعجبني. تسألني لماذا لا يعجبني فأقول أسبابي، فتتمسك به أكثر وتسرد كل فضائله. أقول لها إنه سيجعلها تبدو أكبر سناً فتتراجع عن اختيارها. أمشي بسرعة فتمشي أمي ببطء، أبطئ من خطوتي فتسرع أمي: فروق توقيتنا هي قصة حياتنا.

في المساء أطفئ كل الأنوار وأتلذذ بالظلام والصمت. من بعيد أسمع أصوات أطفال يلعبون في الشارع. لا أستطيع تمييز كلامهم ولكني أعرفه: عشرة عشرين تلاتين أربعين خمسين ستين سبعين تمانين تسعين ميه، نطوا علينا الحرامية، سرقوا الفول والطعمية...

خلاويص؟

لسه!

خلاويص؟؟

لسه!

خلاويص؟؟!!


خلاص.

Thursday, December 16, 2004

مرسي اتهزم يا رجالة


أستيقظ مبكرة. أشرب قهوتي وأتصفح الجريدة وأرتدي ثيابي. أتسلل خارج البيت حتى لا أوقظ مرسي. ولكنه يفتح عيناه بصعوبة وينظر إلى محاولاً الفهم (إلى أين هي ذاهبة "ع الصبح كده"؟ ولماذا؟) أبتسم له فيغلق عيناه ويفتحهما مرة أخرى ثم ينسى الذي كان يفكر فيه ويعود للنوم.

أعود من عملي وأفتح باب المنزل فأجد مرسي واقفاً بثبات وتنبه أمام الباب مباشرة. ينظر لي في عيني ولا ينزل عيناه ولا يبتسم. ولكني أعرف من رقصة عينيه أنه سعيد بعودتي. يراودني شعور غير مريح أنه أمضى اليوم كله واقف هكذا: منتظر باهتمام. آخذه بين ذراعيّ وأقبله. لا يبدو عليه أي تأثر بهذا العرض المفاجيء من المشاعر. أتركه وأدخل لأبدل ملابسي. أجهز عشائي وعشائه. نأكل في صمتٍ أليف. نغسل أيدينا ونتمدد على الأريكة. أحضنه فينظر في عيني بترقب.

أسأله السؤال الذي أعرف أنه ينتظره: "عملت إيه النهارده؟" تمتليء عيناه حماساً ويرد: "نياو! نياو! نياو!" أبتسم لحماسه وأقول: "يااااه! كل ده؟! وإيه كمان؟" فيقف على قدميه الأمامتين ويعلو صوته وهو يحكي بسرعة وبتدفق: "نياو نياو نياو....نياو! نياو نياو!" يظهر علىّ الاهتمام: "طيب قول لي...هم عملوا فيك إيه؟" ينظر بعيداً وبشرود يهمهم: "نياو...نياااااو....نيو...مممممم" أتعاطف معه وأربت عليه فيمسح رأسه في كتفي ويزوم في هدوء.

أعرف من أمي أنه كان يلعب في الحمام عندما دخل أخي الحمام وغسل يديه وخرج وأغلق الباب بدون أن ينتبه لوجود مرسي بالداخل. استمر مرسي في اللعب حتى فتحت أمي باب الحمام فجأة فاصطدم الباب بالسلم (الذي كانت نسيت انها وضعته خلف الباب)، فوقع السلم على حنفية الحوض فانكسرت وانفجرت المياه في كل مكان وبالتحديد في وجه مرسي الذي كان يلعب بسلام على حافة الحوض. ومما زاد الطين (والحمام) بلة أانه عندما وقع السلم علُق الباب، ولمدة خمس عشرة دقيقة لم يتمكن أحد من دخول الحمام أو غلق المياه أو إنقاذ مرسي من الجري الجنوني في كل مكان في الحمام، فأخذ يتخبط في الحائط، فيهرب من الحائط فيتخبط في السلم، فيهرب من السلم فيقفز في الحوض فتغرقه المياه فيقفز مرة أخرى وتستمر الرقصة المفزوعة. تقول أمي أنه بعد إنقاذه دخل غرفتي وطمر نفسه وسط أغطية سريري ورفض أية محاولة للصلح.

أكتم ضحكي وأذهب إليه. أجده على الأريكة يشاهد التليفزيون بتركيز مصطنع. ينظر إلىّ ويعرف من نظرتي أنني عرفت. يتنازعه خجله ورغبته في استدرار عطفي. أحتضنه فيحتضنّي، ويمسح رأسه في كتفي، ثم يسند رأسه على يديه وينظر إليّ سعيداً. أبتسم: "معلش يا مرسي، أيوه، امسحها فيّا." يريح رأسه على كتفي ويكور جسمه كله في المساحة ما بين كتفي ويدي وينام. أضم رجليّ تحتي وأخفض صوت التليفزيون وأنام.