Sunday, December 19, 2004

أنا... بس على أكبر


تصرخ في أمي: "لن تفهمي. لن تفهمي حتى تصبحي في سني وتشعري بما أشعر".


أشرد وأراني بعد 20 سنة من الآن ...

لن تختلف خطواتي كثيراً: خطوات واسعة وسريعة نسبياً. لن تختلف نظرتي كثيراً: أسير ناظرة للأمام، أنظر للعالم في عيونه، أرى ولا أرى، وعلى شفتي ابتسامة شاردة، وفي رأسي أدندن بأغنية. دائماً هنالك أغنية. وغالباً ما تكون لفيروز. تحكي فيروز قصصي ... كلها.

لن يتغير نظام يومي كثيراً. استيقظ مبكرة. أشرب قهوتي وأقرأ شيئاً أو أتفقد بريدي الإلكتروني. أسقي نباتاتي الصغيرة وأطعم القط. أغسل أو أنشر أو أجمع الغسيل. أفعل نفس الأشياء ولكن ببطء وتأنٍ. ليست هناك حاجة للهرولة.

سأحرص على أن يبقى شعري بنفس اللون: بني غامق. أقصه فتنهرني سامية وتقول إن الشعر القصير يجعلني أبدو أكبر من سني. أضحك وأقصه أقصر بعدها بأسبوعين.

أمر على خالتي. طبخت بطة وكالعادة لا أحد يأكل البط غيري وغيرها. تشتكي من ضعف سمعها وأشتكي من ضعف سمعي. تقول خالتي إنني دائماً ومازلت أعيش على "شواشي الدُرَة": لا أتوقف عند كثير من الأشياء، ولا أهتم بالكثير مما يهتم به من حولي، ولا أعلّق على الأحداث في حينها. وتلومني خالتي دائماً لأني لا أتذكر أسماء أحفاد أحفاد أولاد خالاتي. أقر بخطأي وأتعلل بذاكرتي التي تسوء مع الوقت (ولكن لا أعترف لها أنني لم أعد أعرف الأحفاد من الأولاد: كلهم يشبهون بعضهم البعض، وكلهم نسخ جديدة أو قديمة من أهاليهم وأولادهم).

يتصل بي صديق طفولتي لأحضر و"أتصرف" مع ابنه. أحب ابنه كثيراً. يكتب ويكتب ويكتب، شعراً رقيقاً لا يريه لأحد. لا أذكر ما الذي فعلته لأكسب ثقته، ولكنه قرر يوماً أن يريني أشعاره، ومن يومها وأنا من أكبر معجباته. أعرف من الأشعار أنه يحب. أراه في الشارع يوماً معها فأُسقط نظارتي وأنحني لأبحث عنها تحت السيارات حتى يمر هو وهي بدون إزعاج. يعترض أبوه على قراءاته التي لا تنقطع ويرى أان "مستقبله هيضيع" إذا استمر يعيش بين صفحات الكتب أكثر مما يعيش فعلاً. أنتحي بالولد جانباً وأقول أن بإمكانه أن يأتي بكتبه ومذاكرته ويقرأ ويذاكر كما يريد في مكتبي. أنا أفهم وهو يفهم، فمجال دراستنا واحد. نبتسم وأخرج فأقول لوالده أن الولد لا يستطيع التركيز في هذا المنزل المزعج ولذلك سيذاكر في مكتبي. يرفع صديقي حاجب واحد مستنكراً، ثم يفهم فيبتسم: "ماشي يا رحاب".

تتصل سارة لتبلغني أن أحد كتابنا المحبوبين قد توفى. تقول بحسرة: "حتى ده يا رحاب بقى من الكلاسيك".

ويوم الجمعة أشعل البخور وأخرج البطاطين في الشمس، وأجلس هكذا لبعض الوقت أشبع ساقي بالدفء، وأراقب ذرات التراب وهي تسبح في شعاع الشمس. أتذكر بيت جدتي الذي وُلِدَت فيه. أقرأ لها الفاتحة. أنزل مع أمي لنتغدى سوياً ونذهب للسينما كعادتنا كل جمعة. اليوم أنا التي سأختار المكان فأختار الكوربة. أحب الكوربة في الصباح المبكر. أحبها عندما تبدأ الدكاكين في الاستيقاظ . أحب رائحة الخبز الساخن من مخبز فينوس. أحب انسياب نور الشمس بين البواكي. أحس أن الشمس تلعب معي استغماية: الآن أراها...الآن لا أراها. أستيقظ فأجد أمي مستيقظة. هذا هو الوضع منذ أن كنت طفلة، فأمي تستيقظ مبكرة جداً. كانت تقول لي أنني كلما تقدمت في السن سيقل نومي. ولكن كلما قل نومي قل نومها هي أيضاً، فيظل بيننا هذا الحوار الأبدي الذي يدور حول لماذا أنا صامتة هكذا في الصباح ولماذا تتناول هي الغداء في الثانية عشرة ظهراً. يعجبنا الفيلم ونتناقش فيه طوال اليوم، ونختلف على رؤيتنا له، وتقول إني لم أفهم الفيلم وأقول إنها ستتفهم وجهة نظري بعد ستة أشهر. يعجب أمي فستان لا يعجبني. تسألني لماذا لا يعجبني فأقول أسبابي، فتتمسك به أكثر وتسرد كل فضائله. أقول لها إنه سيجعلها تبدو أكبر سناً فتتراجع عن اختيارها. أمشي بسرعة فتمشي أمي ببطء، أبطئ من خطوتي فتسرع أمي: فروق توقيتنا هي قصة حياتنا.

في المساء أطفئ كل الأنوار وأتلذذ بالظلام والصمت. من بعيد أسمع أصوات أطفال يلعبون في الشارع. لا أستطيع تمييز كلامهم ولكني أعرفه: عشرة عشرين تلاتين أربعين خمسين ستين سبعين تمانين تسعين ميه، نطوا علينا الحرامية، سرقوا الفول والطعمية...

خلاويص؟

لسه!

خلاويص؟؟

لسه!

خلاويص؟؟!!


خلاص.

10 comments:

  1. الكوربة هي أرض الأحلام..
    (لا تخبري أحدا :-)

    ReplyDelete
  2. Ya lahwy ya re7ab!!! Ya lahwy! Ana mesh 3arfa 2a2ool 2eeh! Amr would say enny bet7ammes lel 2ashya2 zeyada 3an el lozoom if I tell you that this is the best you've written so far! But what the hell! It WILL remain the best you've written so far until you write more. I've read it 3 times... It's so beautifully sad... bass feeha nafs el 7enneya wel 7ob elli beymayez kol elli betektebeeh... betekteby 7agat 7azeena bass bekoon zay el nursery rhymes el 2adeema. Kalamha 7azeen bass la7naha 7enayen... 3ashan el baby yenam. Zay "rock a bye baby on a tree top, when the wind blows the cradle will rock" at the end of the ryhm the baby falls. We zay "yamama beida" elli taret ya neina 3and sa7ebha...

    I'm overwhelmed!

    p.s. And thank you for making me enter history by mentioning my name!! And yes! I will kill you the next time you cut your hair! :PPP

    ReplyDelete
  3. I dont know what to say.. but u have writen a master piece over here. i like and admire ur capability of making me feel the places,smelling the air of it.
    thanks for letting me find a real writer.

    ReplyDelete
  4. Hello Rehab,

    Why you're not famous .. I feel almost guilty to enjoy you beautiful work .. this should be in the public .. a lot of people need this tender and kind touch of you hand on their hearts .. actually this how I feel when reading this .. I feel like you've reached with angel like fingers .. through my heavy chest and touched my heart ..

    Joy, noble mild sadness and breathing a little easier .. follows .....

    ReplyDelete
  5. No I haven't seen the movie. Which lines? the final lines are taken from a game kids play in the street here Egypt. I doubt that Kurosawa knows those lines :)

    ReplyDelete
  6. Hello Rehab

    مع انى ما ارتش كتير ليكى بس اسلوبك روعة وفوق كل تقدير

    ReplyDelete
  7. أنا بحب أوي أقرأ الحاجات اللي بتكتبيها علشان أنا بحب اللغة اللي بتكتبي بيها علشان سهلة بس فيها معنى ممكن كتير مننا يحب يحكي كدة بس الكلام مبيسعفناش فلما بنقرا حاجة زي كدة بنحس بيها كويس

    ReplyDelete
  8. أحياناً أكره كلمات المدح دون أن أسرد أسبابي ..
    وأكره كذلك تلقيها دون ذكر الأسباب

    لكني أحياناً _كعادة كل الأشياء الرائعة_ أحب العكس ..

    أن يقال أن الكتاب الفلاني أو القصة الفلانية أو التدوينة الفلانية رائعة الجمال .. ولماذا ؟
    لا أدري


    مدونتك .. لغتك .. أسلوبك ..

    كل هذه الأشياء في منتهى الجمال حقاً

    ReplyDelete
  9. dy ana lasa karyaha fy al katab w bagd ta7afa

    ReplyDelete
  10. enty hna aktar mn ra2e3a :)

    ReplyDelete