هناك شيء في الخريف..
لا يأتي الخريف مقتحما عليك
حياتك ويلطمك بلفحة ساخنة مثل الصيف.. ولكنه يأتي على مهله.. في تأنٍ يكاد يكون
دلالا. لا يأتي فجأة كضيف لم تكن تتوقعه، تفتح الباب فيذهلك وجوده أمامك، ولكنه يأتي
كواحد من أهل بيتك معه مفاتيحه، تستيقظ فتجده مسترخيا على كنبتك المفضلة، يقرأ
رواية ما، وتجبرك النظرة المبتسمة والغمزة على أن تعمل فنجانين قهوة وتأتي لتجلس
معه لتشربها في صمت حميم قبل بداية اليوم. تتنهد في ارتياح لأنه هنا أخيرا بعد أن
كنت قد قلقت عليه، فأنت تتوق لنسمة منه طوال أغسطس الخانق. ولكنه ارتياح مشوب
بالتوجس، فأنت تعرف ما يفعله الخريف وبعده الشتاء في مزاجك، وتخشى غياب الشمس
وتلبد السماء. ولكنه هنا.. الخريف.. شخصيا.. بنسماته اللعوب وإضاءته الأخف.
بعد أن
كانت رائحة الفل والياسمين تطاردنا عند كل مطب وإشارة مرور طوال الصيف، تختفي من
حياتنا فجأة كما ظهرت فجأة، ويحل محلها الورد البلدي، برائحته الرزينة الشقية،
التي تهمس لك بأن كل شيء ممكن، حتى في الخريف. كل أغاني الصيف الراقصة التي
سمعناها بأعلى صوت وشبابيك السيارة مفتوحة، تخفت لتصبح موسيقى خلفية لذكرياتك عن
هذا الصيف، وتشعر بحاجة ملحة لسماع أغنيات مثل "ولا كيف" أو "بالمظبوط" أو
"ميكس" من فيروز وأزنافور وأغانٍ لا حصر لها من "الجاز". بعد
أن قضيت الصيف في الهرولة، بين بيوت الأصدقاء، بين الشواطئ، بين الخروجات، بين
المشاوير، يأخذك الخريف من يدك ويجلسك وينظر في عينيك ويسألك: "والآن.. ماذا تريد
أن تفعل بحياتك؟"، فتبطأ خطواتك وتسترسل أفكارك ويأخذ كل شيء وقته الجميل.
تتزحزح
الليمونادة المثلجة من مكانها وتتركه للقرفة بالحليب الساخنة، ويصبح النسكافيه
مكروها والقهوة التركي فرضا. الآيس كريم سيأخذ وقتا أطول ليذوب، وتستطيع أن تخبز
كيكة تأكلها بجانبه، هي باردة من الخارج ساخنة من الداخل، وهو ساخن من الخارج مثلج
من الداخل.. الجمال في قضمة. وبعد أن ظللت أسير الشبابيك الموصدة والتكييف سجانك، يمكنك
الآن أن تعود لكرسيك المفضل تحت الشباك الذي يهب عليه النسيم الوديع. والشمس التي
تفاديتها لشهور طويلة وفعلت كل شيء حتى لا تلمحك، تراها الآن تختلس النظر من وراء
الستائر الثقيلة، فتفتحهم على آخرهم وتدعوها للدخول قابلا اعتذارها. الأصفر ذو
المزاج المتقلب والفوشيا قليل الحياء يأخذان مكانا قصيا في دولابك، ويسيطر عليك
الأحمر بغوايته والبني بدفئه، وتشعر بحاجة ملحة لشراء قميص أبيض وحذاء غالبا سيكون
أسود.
وندرك
معنى وجود الخريف في حياتنا، وأثره عليها، فنبدأ في أكل كل ما نجده من المانجو، نأكلها
ونشربها ونخزنها في الفريزر استعدادا لشتاء طويل من الجوافة السمجة، مانجو لم يتسن لنا أن
نأكلها في الصيف لأننا كنا نهرول. الآن وفي آخر الموسم نتلذذ بها فعلا، نتذكر
الأنواع التي نحبها ونتمرمغ فيها حتى تصفر أظافرنا وتصاحبنا هالة من رائحة المانجو
تفاجئنا كلما حركنا يدينا أمام وجهنا.
يأتي
الخريف، فيصبح كل شيء على أهبة الاستعداد، الأقلام الرصاص المبرية وورق الكراسات
الخاوية والساندوتشات الفينو؛ كله في الانتظار، يريد أن يبدأ، يريد أن يُملأ، يريد
أن يُلتهم. تخلو الشوارع، ويهدأ الجيران، ولا صوت يعلو فوق صوت أفكارك، فكل
الأفكار التي تفاديتها شتاءً وربيعا وصيفا، تجلس الآن، في الشمس الناعمة، على سور
شباكك، تزقزق وتناديك، تتأملك برأس مائلة وحاجب مرفوع وكأنها تقول لك:
"ها؟".
"القصة
مش طقس يا حبيبي".. لكني أحب الخريف لأنه أخذني إليك، بجوه الذي ارتبط عندي
بهذه الكهرباء اللذيذة التي تسري فيّ بقربك، خريف مشحون بالاحتمالات والأمنيات،
وشتاء دافئ.. دافئ.. دافئ.. فيه يدي لا تفارق يديك، وأمسيات طويلة تمر سريعا في نزهات
على الأقدام في شوارع أصبحت أقاربنا، وكلام هامس، ونظرات صاخبة.
مع الخريف
أستطيع أخيرا أن أدخل غرفة المكتب وأفتح شباكها وأهويها بعد أن قامت في الصيف بدور
المخزن/الفرن/مصيدة التراب. أرص الكتب التي اكتنزتها طوال الصيف في رفوفها، وأضع
كل الأوراق المكومة على المكتب في ملفاتها. أمسح المكتب جيدا، وأُخرج شموعا برائحة
التفاح والقرفة والبسكويت المخبوز. يدق قلبي بسرعة وتنمل أصابعي ولكني أجلس على
المكتب.. وأكتب :)
* عنوان التدوينة مأخوذ من أغنية "ولا كيف" لفيروز.