تحت بيتنا شجرة ضخمة تصل أغصانها لشباك حجرتي في الدور الرابع. يسكن الشجرة عائلة كبيرة من العصافير، أظن أنها تمتد للجيل الخامس. هناك عصفورة مُكلَّفة بالاستيقاظ قبل كل العائلة لتوقظهم. هذه العصفورة المبكرة لديها نظام ثابت: تستفتح اليوم بالتوجه إلى الله بدعاء "يا فتاح يا عليم، يا رزاق يا كريم"، ثم تبدأ في النداء على كل عصفور باسمه. تتوقف أحيانًا وسط النداء لتٌلقي خطابًا حماسيًا قصيرًا جدًا من أربع زقزقات سريعة لتشجع العصافير التي استيقظت وتمدحها، وتوبخ العصافير الكسالى التي تتناوم.
فيما عدا العصفورة المبكرة هناك القليل من أصوات العصافير الصباحية، أصوات مثل "ما تتأخرش"، و"ما تنساش القش"، و"هتوحشني"، و"مش كل يوم دود!"، و"بعد صلاة الظهر عند شجرة الجوافة، إوعى تتأخر"، و"أنا والشباب هنلقط رزقنا في الجنينة الكبيرة النهارده، خليكوا إنتوا مع العيال". زقزقة هنا، زقزقتين هناك، واحدة قصيرة هنا، أخرى أطول هناك. كلام سريع ينتهي مع أول شعاع شمس وانطلاق كل عصفور في رحلته.
عند غروب الشمس، تبدأ العصافير في العودة للشجرة. يكون المشهد أكثر فوضوية وضجيجا. فكل العصافير تقريبًا تعود في نفس الوقت، مما يتسبب في زحام واختناقات مرورية وارتباك في التيارات الهوائية حول الشجرة، لا تهدأ حتى يصل كل عصفور لغُصنه. لا يخلو وقت العودة من بعض الاجراءات الروتينية اليومية: فهناك فرقة مكلفة بالتأكد من تمام عدد أفراد العائلة، وتقديم كشف بالمفقودين والأسرى والمتأخرين. هناك فرقة أخرى مكلفة بتقديم بيان بالجرحى وإصاباتهم وملابسات الحادثة. وأخرى تقوم بتوزيع الطعام بالتساوي على كل أفراد العائلة. هذا بالإضافة إلى فرقة إنقاذ سريع تعمل طوال النهار وهي مستعدة للإنطلاق في أية لحظة.
تجلس كل أسرة على غُصنها لتناول العشاء، ويكون على كل عصفور أن يحكي قصة يومه بالتفصيل للعائلة كلها، فيتشاركون في عناوين أماكن الرزق الجديدة، ويحذرون بعضهم من أطفال بحجارة أو بنادق في مناطق معينة، أو فخاخ في مناطق أخرى. يتبادلون وصفات الطعام، وخبايا الحبوب في مختلف الحدائق التي زاروها اليوم. يقترضون من بعضهم البعض بسهولة، فيعطي هذا العصفور لذاك قشة، أو ورقة شجر، أو حتى ريشة. يتكلمون كلهم في نفس الوقت بلا توقف. أخبار وشكوى وأسرار ونوادر. الحكي يمتعهم ويطمئنهم ويصنع حولهم هالة دافئة من الونس. حكي.. حكي.. حكي.
يغمرني شلال من الزقزقة. في هذه اللحظة أتمنى أن أكون عصفورة.. لساعة واحدة فقط.. كل يوم.
Friday, October 09, 2009
فصل عن الزقزقة
Subscribe to:
Posts (Atom)