تحكي لي أمي أن خالتي آمال كانت تصطحب خياطتها اليونانية معها إلى السينما لترى بنفسها موديلات فساتين شادية وفاتن حمامة، لتصنع نسخ مطابقة منها لخالتي. تتنهد أمي وهي تضيف: "طول عمرها عايقة".
توفيت خالتي آمال أول أمس. اتصلت بي أمي في العمل وقالت: "عندي خبر مش كويس عن طنط آمال". لو كانت أمي قد قالت: "عندي خبر مش كويس" وصمتت لأُغشى علىّ في الحال، فأنا منذ بضعة أسابيع أحس أن هناك شخص قريب سيتوفى، ولكنها عندما قالت الجملة كلها في نَفس واحد فوجئت واسترحت في نفس الوقت. حبست أنفاسي وحاولت بسرعة أن أسترجع نبرة صوت أمي من أول المكالمة، لأحاول أن أحدد مدى تأثرها. أغمغم بكلام غير مفهوم محاولة تعزيتها (تعودت مني أمي على هذا، وأصبحت تفهم من غمغمتي ما تريد أن تفهم). اختنق صوتها وهي تقول: "ارتاحت" فتركت العمل في نصف النهار وهرعت إلى المنزل حتى لا تبكي وحدها. وجدت نفسي طوال الطريق أبكي بصوت عالٍ واندهشت لحزني هذا. طنط آمال هي واحدة من ثلاث أخوات غير شقيقات لأمي، ولكن لأنها أصغر تلك الأخوات فهي أقربهن لأمي ولخالتي الصغرى ولنا. هي شخصية مرحة "حبوبة"، تحب الحياة للغاية ولديها طاقة مُعدية تنتقل لك ببساطة وأنت معها.
رغم حبي للشتاء إلا إنني أخاف منه. نجحت أمي في ترسيب لدى فكرة أن الشتاء دائماً ما يحصد العجائز: "ما بيستحملوش البرد". أغلب موتانا رحلوا في الشتاء فعلاً.
أعود للمنزل فأجد حذاء أمي بجوار الباب خارج الشقة. أفهم أنها لم ترد أن تدخل الشقة وبقايا تراب المقابر عالقة بحذائها. أتذكر مقولة جدتي لأمي التي كانت أمي دائماً ترددها: "نفسي أموت وتراب الشارع على رجلي"، وكانت تتمنى ألا ترقد مريضة في السرير. توفيت جدتي وهي تسقي نباتاتها الصغيرة في منزلها.
أجد أمي في السرير. أحتضنها وأحاول أن أدقق في تفاصيل عينها لأتلمس حزنها وأعرف كيف أتصرف. نتكلم قليلاً وأتركها لتنام. شهاب سعيد بعودتي المبكرة ويحتضنني بمرح. يجدني متخشبة فيتساءل عما بي. "يا ابني مش طنط آمال اتوفت؟!" فيجيب ببساطة: "أيوه بس هي كانت عيانة" فأجد رده مستفزاً للغاية. أفتح الثلاجة لأجد مشتروات غريبة كما توقعت، فأعرف أن أمي مرت على البقال لتشتري أي شيء و"تغيّر العتبة". تؤمن عائلتي (وأظن أنه اعتقاد سائد) أنه لا يجب أن يعود المرء من المقابر مباشرة إلى منزله أو أي منزل آخر حتى لا يتسبب في إحضار الموت لأهل المنزل. في أحد الأعياد ذهبت أمي وأخي وابن خالتي لزيارة قبر جدتي، ومروا في طريق عودتهم على بقالة ما لشراء أي شيء و"تنفيض" أحذيتهم مما قد يكون علق بها من تراب، وعندما عادوا لمنزل خالتي وجدوا أن جارهم قد توفى، فنظر ابن خالتي لأمي بوجه ممتقع وقال: "يمكن يا طنط إحنا ما نفضناش جزمنا كويس؟"
في المساء نذهب لقاعة المناسبات للعزاء. أتعلم من أخطائي السابقة فألبس تحت ملابسي السوداء شيء أحمر يبقيني دافئة دون أن يظهر للعيان، وألف حول عنقي كوفية بيضاء. تذكرنني خالاتي وبنات خالاتي في ملابسهن السوداء وأغطية شعرهن البيضاء بعائلة الملك حسين عندما توفى. لا أعرف لماذا تذكرت هذا المشهد وقتها، ربما لشعورهن الشقراء وأعينهن الملونة. بين عائلة أمي أنا من القلائل اللاتي يتمتعن بشعر غامق وبشرة قمحية. عِرق من طنطا وآخر من المنصورة هو السبب في ألوانهن. أقول دائماً أن السبب في لون شعري وبشرتي هو بواقي عِرق مغربي، استناداً على أسطورة عائلية مفادها أن جد جد جدي لأمي نزح من المغرب لمصر، ولكن في أعماق أعماقي أنا مؤمنة تماماً أني أميل للجانب الصعيدي في عائلة أبي.
أجلس في القاعة أغالب البكاء وتجلس أمامي خالتي الكبيرة. يخطر لي أنها إذا كانت هي المتوفية لما حزنت كل هذا الحزن. أرفع عيني وأحاول أن أثبت ملامحها في ذهني وأن استرجع صوتها. أبدأ في البكاء. طنط آمال هي أول أخت لهم تتوفى. منذ عشر سنوات ونحن نتوقع وفاة خالتي الكبيرة، ولم نتخيل أبداً أن نجلس معها في عزاء أختها الصغيرة. أخرج من القاعة لأتنفس على راحتي. أجد إحدى بنات خالاتي من الطرف البعيد من العائلة تقف خارج القاعة. لم أرها منذ سنوات: إزيك...إزيك إنتي..أخبارك...أخبارك إنتي، ثم تعطيني الجملة التي كنت أنتظرها: "معقولة يا رحاب ما نشوفكيش غير في المناسبات دي؟" شعرت برغبة عارمة في أن أصرخ فيها: "وهو إنتي بروح أمك كنتي عزمتيني على فرحك وإلا سبوع ابنك وما جيتش؟!" لكن أتمالك نفسي وأقول: "معلهش"، وينقذني وصول خالتي الصغيرة وابنتها. أركض لحضن خالتي وأسألها لماذا تأخرت، فتقول إنها كانت مازالت تحت تأثير المهدئ، فتروعني الخطوط الرفيعة الكثيرة حول عينيها التي ألحظها لأول مرة. تدخل خالتي القاعة وأظل مع دينا ابنتها في الخارج. تسألني دينا: "مالك؟ وشك سخن وأحمر كده ليه؟" فأحاول أن أشرح: "الهوا...جوه...جوه كتمة أوي...أنا ماكنتش عارفه إنها عيانة كده...أنا مخضوضة..." ولا أقول لها أنني أخاف على باقي أقاربي لأننا في الشتاء.
تأتي عمتي الكبيرة وابنتها لتقديم واجب العزاء. أرتاح كثيراً لترابط عائلة أمي وأبي، خاصة عمتي الكبيرة وخالتي الصغيرة. عندما كنت في الحادية عشرة من عمري فقدت عمتي زوجها وانفصلت خالتي عن زوجها، وعشنا نحن الأطفال أحلى إجازة صيف، حيث كان كل هم الكبار أن نكون بعيداً عنهم وعن البيوت المنكوبة بأي طريقة ممكنة، فقضينا جل وقتنا ما بين النادي والشارع.
أنا أذكر عن الراحلين الكثير، أو القليل، ولكن في كل الأحوال لا أنسى أصواتهم أبداً. طنط آمال كانت تنطق اسمي بالطريقة التي أحبها، لا تنطقه "ريحاب" بسخافة بل "رحاب" بحروف واضحة. كانت في كل مرة تعود فيها من إيطاليا تأتي لنا بشيء جميل صغير. آخر هداياها كان دبوس فضي للمعطف صغير وملون، أعطته لي في كيس بنفسجي رقيق.
أفكر كثيراً في تقدمي في السن. كتبت عن ذلك مرة. أردت دائماً أن أبدو مثل خالتي آمال إذا ما بلغت الستين: قصة شعر أنيقة، ملابس بألوان سعيدة، بعض الفرنسية وبعض الإيطالية، ضحكة تلقائية مجلجلة، لمعة في العيون، وشقاوة و"دلع" لا يطفئهما الشعر الرمادي ولا "كراميش" الوجه والرقبة.
في رمضان الماضي كنت أحضر حفل لفرقة "وسط البلد" بالتاون هاوس. في منتصف الحفل لاحظت أن هناك سيدة في أواخر الأربعينات تقف بجوارنا وتهز رأسها بهدوء مع الموسيقى، وعلى شفتيها ابتسامة صغيرة وبعينها استمتاع يلمع. كانت تحمل حقيبة سوداء كبيرة وترتدي حذاء مريح بكعب منخفض وملابس عملية وبسيطة. أول ما خطر على بالي وقتها أنني غالباً سأبدو كذلك في أواخر الأربعينات. انتبهت أن خالد يشير لي من آخر الصف محاولاً لفت انتباهي، أنظر له مستفهمة فيشير إلى تلك السيدة وبابتسامة عريضة يقول: "إنتي هتبقي شبهها كده لما تكبري!" أضحك جداً وبسعادة بالغة أقول: "أيوه أيوه! كنت لسه بأفكر في كده حالاً!"
أجد نفسي أفكر كثيراً أيضاً في موتي، حتى وأنا في مزاج رائق. أفكر في الفضة التي أمتلكها ولمن ستذهب. قررت أكثر من مرة أن أكتب وصيتي حتى اطمئن على سير أحوالي بعد موتي. الفضة تقتسمها البنات: تختار أمي أولاً، ثم يختار أخي قطعتين (واحدة لزوجته إذا تزوج، وأخرى لابنته إذا انجب بنتاً)، ثم خالتي وبناتها، ثم عمتي وبناتها، ثم ابنة خالي في فيينا وابنة خالي الأخرى وزوجة ابن خالي في كندا، ثم صديقاتي تبعاً لأقدميتهن ودورهن في حياتي: ريهام وكارولين وأمنية، ثم هلا ورهام وسامية ومها ومروة. ملابسي الشتوية تذهب كلها للفقراء والمحتاجين. ليس لأحد من أقاربي أو أصدقائي أن يحتفظ بأي معطف أو كنزة. يمكنهن أن يقتسمن الكوفيات، ولكن الملابس الثقيلة—حتى الغالية منها، وخصوصاً الغالية منها—تذهب للذين يحتاجونها. لا أبالي بمن سيرتدي معطفي الثمين، طالما وهب الدفء لمن يحتاجه فعلاً. أحذيتي أيضاً تذهب للفقراء. أما كتبي فتوزع على الجميع، بنات وأولاد، كبار وصغار، أقارب وأصدقاء ومعارف. أريدهم أن يحضروا إلى منزلي مرة كل أسبوع أو حتى كل شهر، يفتحون خزانتي وأدراجي ونوافذي، يستضيفون الشمس والهواء في غرفتي، يجربون كل ملابسي وحقائبي وعطوري ومستحضرات تجميلي ويأخذون ما يريدون؛ يجعلونني أتنفس ولا يتركونني أموت.
أُدفن في عجيبة على شاطئ الأُبيض بمرسى مطروح—إشمعنى يعني جدي اتدفن في أبو قير على البحر؟—ولا يأتي أحد لزيارتي بدون ورد بلدي وردي اللون. يُزرع حول قبري الريحان والخزامي والفُل والياسمين وشجرة توت صغيرة. لا أُريد مأتماً لثلاث أيام ولا أُريد ذكرى الأربعين أو إحياء الذكرى السنوية. رغم كل شيء عشت حياتي بابتسامة وأغنية، فليست بي حاجة للحزن بعد غيابي. في ذكرى الأربعين يمكن لعائلتي وأصدقائي السفر للإسكندرية وقضاء يوم هناك. أوصيكم بسلطة "التراما" من النادي اليوناني، ثم آيس كريم الحليب من "جيلاتي عزة". الإفطار عند محمد أحمد، والحلو من عند ألبان السقعان (خصوصاً الكريم كراميل)، والشوكولاتة الباردة من البن البرازيلي، والكابتشينو من التريانون. الغروب عند قايتباي، والزلابية من شارع النبي دانيال، والسهرة على الكورنيش أو على سطح منزلنا بالأزاريطة. تُرى هل سيتذكر أولاد خالتي عندها كيف جعلتهم يسيرون من ميامي حتى الأنفوشي مقنعة إياهم أننا في طريقنا إلى سموحة؟ هل سيتذكرون جمعي لتذاكر الترام وكتابتي على ظهر كل منها التاريخ والمكان الذي ركبنا منه والمكان الذي نزلنا فيه؟ هل سيتذكرون اليوم الذي صحت فيه: "السما مليانه نجوم الليلة دي، يا سلام لو النور يقطع!" فتنقطع الكهرباء في لحظتها عن كورنيش الإسكندرية بأكمله؟ ماذا سيتذكرون عني؟
في طريق العودة تحكي لي أمي أنها كانت تنتظر خروج باقي إخوتها من المقبرة، حيث أنها لم تقو على الدخول معهم، ولكنهم فوجئوا أن قريب آخر لهم قد توفى واتصلوا بالناس الموجودين بالمقبرة حتى ينتطروهم ليحضروا الفقيد الثاني. وهي منتظرة ومستغرقة في حزنها فوجئت أمي بالحانوتي يُشهد حارس المقابر على مساعده: "أنا قلت له خليك هنا ما تقعدش تتنطط بين التُرب، وآدي رزق تاني جالنا آهوه! أنا مستعد اديك 300 جنيه على اليوم كله". تستطرد أمي بدهشة وهي تضحك: "وأنا قاعدة حزينة وصعبان عليا آمال لقيت الناس دول بيسترزقوا...يعني ناس بيزنس خالص...طلعوني من الموود تماماً!"
عنوان التدوينة مأخوذ من أغنية لعلي الحجار.
Saturday, November 26, 2005
لما الشتا يدق الببان
Wednesday, November 09, 2005
Subscribe to:
Posts (Atom)